لعلها المرة الأولي التي يؤكد فيها الحزب الشيوعي السوري بشكل علني وصريح وواضح (أن العلمانية ضرورة وطنية وقومية ونهضوية للمجتمع) كما جاء في مشروع التقرير الفكري الذي سيقدمه للمؤتمر الحادي عشر للحزب هذا الخريف، وبرر الحزب موقفه بأن مجتمعنا (المتعدد المكونات المذهبية والعرقية بحاجة خاصة إلي العلمانية، ولا طريق لضمان علاقات وطنية سليمة بين هذه المكونات سوي العلمانية، لأنها تحمي التساوي بين المواطنين وتصون حقوق الجميع) خاصة أن رجال النهضة العرب أكدوا أهمية العلمانية، وناضل المناضلون من جميع الانتماءات من أجل التحرر من الاستعمار والاحتلال تحت شعار الدين لله والوطن للجميع، الذي كان شعار الثورة السورية الكبري، واستنتج مشروع التقرير، في ضوء ذلك، أن العلمانية ليست جديدة علي المجتمع السوري ولا غريبة عن حياته العملية، وانطلاقاً منه تشكلت الأحزاب السياسية علي اختلاف مشاربها الفكرية، وبدوافع وطنية وقومية وتحررية، وعملت علي تحقيق التحرر الوطني والدولة القومية. خطاب علماني ودعا الحزب بإصرار وحزم إلي نشر قيم العلمانية في التشريع والإعلام والتعليم وبناء الأحزاب، أي في جميع المجالات الأساسية، كما دعا العلمانيين للعمل الجاد والدؤوب، والحوار الموضوعي للوصول إلي خطاب علماني جديد، يقدم العلمانية علي حقيقتها، ويوضح أسسها بعد أن أصابها العنت وعلقت بها الأوهام الناتجة عن الإعلام الرجعي والفهم الساذج الذي قرن العلمانية بالإلحاد والتفريط بالقيم، ورأي الحزب أن لا علاقة استبعاد أو تضاد بين العلمانية والإيمان الديني علي الصعيد الشخصي، فالعلماني كما استنتج الحزب يمكن أن يكون مؤمناً، والمؤمن يمكن أن يكون علمانياً، ومن الواضح أن استنتاجات الحزب هذه حول العلمانية جاءت ردوداً علي تيار إسلاموي كبير جداً، نشر أفكاراً محرفة عن العلمانية، حيث اعتبرها إلحاداً والعلماني كافراً، واختصر مفاهيمها كلها في مفهوم واحد هو فصل الدين عن الدولة. وبما أن الإسلام في رأي هذا التيار هو دين ودولة، فإن فصلهما هو أمر معاد للدين وكفر مباح، وقد اقتنع كثيرمن أبناء الشعب السوري، وحتي أحزابه المشاركة بالسلطة والمنضمة للمعارضة، بهذه الطروحات، وأخذ الجميع يضعون هذه المفاهيم الخاطئة عن العلمانية معياراً لمفاهيمهم للدولة وقيمها وسلوكها، وتناسوا أن العلمانية موقف أكثر شمولاً في شئون الكون والحياة والدولة والمجتمع والحرية والديمقراطية والمساواة وتداول السلطة، وفصل السلطات، إلي جانب فصل الدين عن السياسة وعن الدولة، ومنع تدخلها في شئونها، أو تدخله في شئونه، ولعل هذا التضاد في الأفكار والمواقف بين التيارات السياسية والفكرية السورية الذي احتد في السنة الأخيرة، هو الذي أدي بالحزب الشيوعي السوري أن يتخذ هذا الموقف الصريح والجريء والواضح، ويؤكد في مشروع تقريره النهائي أنه حزب علماني تقوم علمانيته علي فصل الدين عن الدولة والسياسة (وأن هذا الفصل لا يحمل إساءة للأديان، بل إنه ينزه الدين عن ذرائعية السياسة وانغماسها بالتفاصيل) ويحمي قيمه وأفكاره من التأثير بالمصالح الآنية التي تجدد توجهات السياسة. ورأي الحزب الشيوعي السوري في تقريره أن العلمانية تعني التساوي بين المواطنين أمام القانون وفي مختلف جوانب الحياة ومجالاتها، وعدم التمييز بينهم علي أساس الانتماء الديني أو السياسي أو العرقي أو الفكري، وتأكيد مبدأ المواطنة ومرجعيتها والانتماء للوطن، وترك الانتماءات الأخري، بما فيها الانتماء الديني، لأصحابها الذين ينبغي أن يكونوا أحراراً في التعبير عن انتماءاتهم وفي ممارسة شعائرهم الدينية ونشاطهم في مجال الفكر والثقافة. فصل الدين عن التعليم وأكد الحزب ضرورة فصل الدين عن التعليم وذلك مراعاة للاختلاف بين طبيعتيهما، فالعلم نشاط عقلي يقوم علي مبادئ الشك والتجربة ومقايسة الفكر بالواقع، أما الدين فهو ذو طبيعة إيمانية تسليمية لا مجال فيها للشك والتجربة. يبدو أن الحزب الشيوعي السوري، لاحظ أن النظام السياسي السوري، رغم نزوعه للعلمانية، يمارس مع القوي والحركات الإسلاموية سياسة التساهل وغض النظر، حتي أصبح هؤلاء يعقدون اجتماعات شبه علنية ويدعون إلي محاضرات وندوات وموالد يقولون إنها ذات طابع ديني بحت (وهي في الواقع ليست كذلك)، وقد تزايد مناصروهم حتي بلغ عدد أعضاء أحد التنظيمات النسائية الدينية في مدينة دمشق (القبيسيات) عشرات الألوف، وتسكت السلطة عن نشاط هذه الجمعيات باعتباره (نشاطاً دينياً) وهكذا ازداد انتشار الفكر الديني وتأثيره ليس بمعناه العودة لصحيح الدين، أو محاولة تجديد الخطاب الديني أو إصلاحه، وإنما بما هو عليه منذ مئات السنين، فكراً يمينياً محافظاً لا يخلو من الخرافة، ويرفض التجديد والتطوير، ويسارع إلي تكفير الآخر، وينحّي العقل والعقلانية جانباً لصالح التفكير السلفي، ولصالح النقل والقياس وأقوال الفقهاء، والهيمنة علي ثقافة الناس وقيمهم وتحويل المؤمنين إلي (دراويش). ولهذا ، كما يبدو، كان رد الحزب الشيوعي السوري هذه المرة واضحاً علي مثل هذا الفكر المدمر، رافعاً راية العلمانية والعقلانية وفصل الدين عن الدولة.