«الأهرام».. أمام المحاكم والرأي العام تعاني الصحافة المصرية التي تتمتع بحرية غير مسبوقة - وإن كانت عرفية - من عديد من المشاكل، من أبرزها عدم التأكد من صحة الخبر قبل نشره، ونشر إعلانات مدفوعة الأجر في شكل تحقيقات تحريرية، والجري وراء الإثارة إلي حد نشر عناوين للأخبار لا تعكس مضمون الخبر، ونقل موضوعات بالكامل من شبكة الإنترنت ونشرها علي أنها من تحرير الصحيفة، وعدم قدرة عديد من الصحفيين علي صياغة الخبر أو التحقيق بصورة صحيحة أو استكمال الخبر نتيجة ضعف مهني لدي البعض منهم لا فرق في ذلك بين الصحف القومية العريقة، والصحف الجديدة الحزبية والخاصة. وفي يوم الثلاثاء 14 سبتمبر أعادت الأهرام نشر صورة نشرتها وكالة رويتر لإطلاق المفاوضات المباشرة الفلسطينية - الإسرائيلية في أول سبتمبر تضم الرئيس أوباما يتقدم رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس» ورئيس الحكومة الإسرائيلية «بنيامين نتنياهو» والرئيس «حسني مبارك» والملك «عبدالله بن الحسين» ملك الأردن.. بعد أن أزاحت أوباما للخلف ووضعت الرئيس مبارك في المقدمة، لتوحي أن مبارك يقود الجميع! واعتبرت صحف مصرية وعربية وعالمية هذا التلاعب في الصورة خطأ مهنيا و«فبركة» لا يمكن السكوت عليها.. لا فرق في ذلك بين ال «بي بي سي» التي اتهمت صحيفة الأهرام بعدم الاحترافية المهنية في نشر صورة متلاعب بها فنيا دون الإشارة إلي ذلك التغيير، أو «الديلي تلجراف» البريطانية التي انتقدت الأهرام «الصحيفة المحسوبة علي الدولة لنشرها صورة تلاعبت بها فنيا تظهر الرئيس مبارك وكأنه يقود مباحثات السلام في الشرق الأوسط»، أو «الواشنطن بوست» التي نشرت تقريرا مصورا عن أهم الصور التي تمت فبركتها يتصدرها صورة الأهرام المفبركة، أو تورنتو ستار الكندية، أو محرك البحث الإلكتروني «ياهو» الذي نشر الموضوع علي صفحته الرئيسية وحوالي خمسة آلاف تعليق عليه، أو موقعي «فيس بوك» و«تويتر» وطرح الموضوع من خلال عشرة آلاف مشارك. وبدلا من اعتذار «الأهرام» عن هذا الخطأ المهني وتوضيح وجهة نظرها أو مبرراتها - إن كان هناك مبرر - صمتت لمدة ثلاثة أيام، ثم كتب الزميل أسامة سرايا رئيس التحرير مقالا حادا هاجم الذين انتقدوا هذا الخطأ، بدأه قائلا «يبدو أن المناخ السياسي السائد حولنا في مصر يتجه نحو الإثارة ومشتملاتها ومحاولة اللعب علي كل الأوتار مما أدي إلي تغييب الحقائق نفسها، قبل أن يصاحبها تغييب القيم والضرب بعرض الحائط بأخلاقيات تعارفنا علي تسميتها بالقيم المهنية وحدود اللياقة والزمالة»، ثم برر ما حدث بأن المنشور في الأهرام يوم 14 سبتمبر صورة «تعبيرية».. «تعبر عن مضمون الوثيقة المنشورة.. فضلا عن تعبيرها الموجز والخفي والصحيح عن الموقف السياسي الدقيق لمكانة الرئيس مبارك وموقعه في القضية الفلسطينية، ودوره المتفرد في قيادتها قبل واشنطن وغيرها.. برغم أهمية واشنطن ودورها»، وانتقل في ختام المقال للهجوم علي من انتقدوا هذا التلاعب في الصورة قائلا.. «الصورة المنشورة تعبيرية حتي يفهم من لا يفهمون.. وحتي لا يضللوا غيرهم ويتكلموا ويقولوا إنهم اكتشفوا الخديعة أو الوهم، أو إننا نزور أو نجمل، فهم الذين يضللون ويكذبون ويصدقون أنفسهم ثم يتهموننا»!!. ثم دخل علي الخط د. عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام - وهو أستاذ أكاديمي في علوم السياسة أكثر منه صحفي مهني - ليدافع عن الخطأ وينشر في الأهرام يوم 20 سبتمبر رسالة موجهة منه للعاملين بالمؤسسة، تتحدث أيضا عن «شكل توضيحي»، وعن تربص بالأهرام.. «تجاوز الصحيفة إلي المؤسسة، وتجاوز المؤسسة إلي النظام السياسي، ليصل الأمر في النهاية إلي استهداف الدولة في هجوم غير مسبوق، خارج السياق، يتم فيه تحميل وسيلة توضيح معتادة دلالات سياسية لم ترد علي ذهن أحد، ويحمل ملامح ترصد واضحة من جانب أطراف لا تستريح للتطور الذي تشهده الأهرام حاليا أو تبحث عن قصص مثيرة في مصر»، وفات د. عبدالمنعم سعيد أن أحدا لم يستنتج الدلالات السياسية لما حدث من الأهرام، ولكن رئيس تحرير الأهرام الآمر بالنشر هو الذي قال نصا إن تغيير الصورة كان يهدف للتعبير «الموجز والحي والصحيح عن الموقف السياسي الدقيق لمكانة الرئيس مبارك وموقعه في القضية الفلسطينية». وتأمل ما كتبه د. عبدالمنعم سعيد لابد أن يثير الفزع، فقد حول نقد صحيفة الأهرام لخطأ مهني، وقعت فيه من وجهة نظر من كتبوا هذا النقد إلي استهداف النظام السياسي، بل واستهداف الدولة، وبعد أن كنا نشكو من اعتبار أي نقد للحكم القائم ورئيسه نقدا لمصر وتشهيرا بها، فعلينا اليوم أن ندرك أن نقد الأهرام أو الاختلاف معها هو عدوان وهجوم علي مصر!! وبعد د. عبدالمنعم سعيد، تقدم الزميل أحمد المسلماني الصحفي بالأهرام ومقدم برنامج «الطبعة الأولي» في قناة دريم، ليتحدث عن المؤامرة ضد «الأهرام» ووجود أطراف محلية ودولية خلفها وتحديدا إسرائيل والصهيونية!! إن هذا المنطق المعوج وافتراض المؤامرة والترصد وتنزيه الصحيفة والقائمين عليها من إمكانية ارتكاب خطأ مهني وإضفاء قدسية زائفة عليها، بتجاهل أن الأهرام - كغيرها - تقع أحيانا في أخطاء صغيرة وكبيرة، ولو كان هناك ترصد كما يقول لتم نشر وقائع قضيتين متداولتين أمام المحاكم في مصر وانجلترا «محكمة جنح مدينة نصر - ومحكمة في لندن» رفعتها قناة الجزيرة ضد صحيفة الأهرام تتهمها بارتكاب جريمة القذف والسب، لنشر الأهرام تحقيقا حول استقالة خمسة من ألمع مذيعات قناة الجزيرة «جمانة نمور - لينا زهرالدين - جلنار موسي - نوفر عفلي - لونا الشبلي»، زعمت فيه تعرضهن لتحرش جنسي من القائمين علي القناة، ومع بدء المحاكمة قدم محامي قناة الجزيرة «د. محمد سليم العوا» حافظة مستندات تشمل نفيا من كل من المذيعات الخمس بخط اليد تكذب ما نشرته «الأهرام» وتنفي تعرضهن لأي ضغوط من أي نوع للاستقالة، وتؤكد تضررهن نفسيا وماديا واجتماعيا وأدبيا مما نشرته الأهرام، وهو ما دفع د. أحمد كمال أبوالمجد إلي مخاطبة قناة الجزيرة ومحاميها باسم الأهرام يطلب الصلح علي أساس استعداد الأهرام للاعتذار للقناة وللمذيعات الخمس علي صفحات الأهرام، وهو ما رفضته الجزيرة حتي الآن. إن الاعتراف بالخطأ والاعتذار هو البداية للإصلاح، أما المكابرة والخلط المتعمد والمرفوض بين الصحيفة والحكم والدولة، وافتراض المؤامرة والحديث عن القوي الخارجية وراءها خصوصا إسرائيل، فهو إمعان في الخطأ. وقد تكون هذه الواقعة جرس إنذار تنبه نقابة الصحفيين إلي ضرورة إعمال قانونها وميثاق الشرف الصحفي، والتفكير في عقد مؤتمر علمي لمناقشة مشاكل الصحافة المصرية.. الإطار التشريعي، والجوانب الفنية والمهنية وكيفية الرقي بمستوي الصحفيين، والعلاقة بين التحرير والإعلان.. إلخ.