في الحلقة السابقة من قراءته التحليلية لكتاب الفيلسوف الفرنسي دوبريه «إلي صديق إسرائيل» يشير الزميل مصطفي نور الدين إلي ازدواجية المجتمع الدولي وتآمره في التعامل مع القضية الفلسطينية، وطرفي الصراع فيها ويلفت إلي أن الحديث عن معاداة السامية يتزايد في اوقات العدوان الإسرائيلي وحروبه ضد ابناء فلسطين، ويستغرب من مطالبة المعتدي عليه «الطرف الفلسطيني» أن يراعي أمن المعتدين دون أن يهتم أحد بأمنه هو. اليهودي هو المفضل والأثير في الجمهورية الفرنسية، إلا أن المفضلين قد يثيرون الغيظ.. قضية معاداة السامية تحتل المقام الأول في قيم الجمهورية كنتيجة لتفرد المحرقة.. تم اصدار تشريع انتقائي يقضي بمنح تعويض مالي للأيتام الذين مات ذووهم كضحايا الاضطهاد المعادي للسامية.. هناك عقود مبرمة لايمانه من الدولة للمدارس اليهودية ذات الطابع التقليدي التي تلقن الثقافة والتاريخ وحب إسرائيل.. فالخوف غير المبرر اليوم هو من طبيعة مختلفة وليس ضد المعبد اليهودي ولكن ضد المآذن وضد العرب. وهو خوف يتأصل يوما بعد يوم ويسمح به بل ويتم تشجيعه. فهو الخوف الذي نسمعه يتردد في قاعات البرلمان والصحافة وعلي لسان الوزراء. وأصبح من الأمور المعهودة أن يكتب علي أغلفة المجلات "العرب". فمن يجرؤ اليوم أن يكتب "اليهود" ؟ فكل المناظرات الغبية التي تدور حول الحجاب واللحية والجلباب والهوية الوطنية لا تجرح الطاقية اليهودية وإنما المقصود بها هو "إسماعيل." جالية مدللة ويتطرق "دوبريه" بشجاعة تستحق التحية للوضع الاستثنائي والامتيازات التي تتمتع بها الجالية اليهودية بالمقارنة بغيرها من قبل الدولة ولا يحرص في انتقاء كلماته برغم السخط الذي سينتج عنها إذ يقول: "فاليهودي هو المفضل أو الأثير في الجمهورية. إلا أن المفضلين قد يثيرون الغيظ. فقضية معاداة السامية تحتل المقام الأول في قيم الجمهورية كنتيجة لتفرد المحرقة. ونظريا فحسب، لا تعترف الجمهورية بأي عبادة (شعائر) ولكن في الواقع توزع اهتمامها علي أماكن العبادة المختلفة والأعياد الدينية. فمع نهاية صيام (يوم الغفران) أو "يوم كيبور" يتوافد علي معبد باريس المركزي العديد من الوزراء في نفس الوقت مع قادة أحزاب المعارضة. فمن لا يقبل منهم أن يضع قدمه في كنيسة "نوتر دام" (أكبر كنائس باريس) للمشاركة في شعائر جنازة لشخصيات رسمية لا يمكنه رفض دعوة المعبد اليهودي. أما نهاية صيام شهر رمضان فتنعم بتواجد وزير الداخلية وشئون العبادات فقط ثم يتلوه لقاء آخر مع عمدة باريس. ولا تحظي الكنيسة الكاثوليكية إلا بأقل مما سبق من تواجد. أما البروتستانتية فالاحتفالات تتم دون أن يذهب أحد. وفيما يخص الجالية السوداء التابعة للكنيسة الانجيلية فيزورها مدير البوليس (ليقول : ارني بطاقاتك الشخصية لو سمحت !!). هذا الترتيب الهرمي للديانات مقاس بالوجود الرسمي للدولة ورجال السياسة يتضح منه أن اليهودية برغم أنها ديانة الأقلية قد احتلت مركز الصدارة بدلا من الكاثوليكية.. ثم يتطرق لكثير من الأمور التي لا يعرفها المواطن العادي إذ لا تثار علانية في الإعلام فيقول: "مثال آخر. تقول المادة الأولي في الدستور الفرنسي بأن كل المواطنين سواسية أمام القانون. وفي سنة 2000 تم إصدار تشريع انتقائي يقضي بمنح تعويض مالي للأيتام الذين مات ذووهم كضحايا الاضطهاد المعادي للسامية. وساد إحساس بالحرج نتيجة مطالبة غير اليهود بالمعاملة بالمثل فغيرت الدولة التشريع بعد أربع سنوات ليشمل التعويض "الأيتام الذين مات ذويهم في المعسكرات النازية أو اعدموا بالرصاص أو ذبحوا في عمليات المقاومة أو الممارسة السياسية." ونفس الشيء ينطبق علي المساعدات المالية التي تمنحها الدولة للمدارس الخاصة بما في ذلك المدارس ذات الطبيعة الدينية. إذ هناك عقود مبرمة لإعانة من الدولة للمدارس اليهودية ذات التوجه التقليدي التي تلقن الثقافة والتاريخ وحب إسرائيل وكذلك لحضانات "لوبوفيتش" للأطفال التي تختارهم طبقا لمعطيات ربانية صارمة. وعلي النقيض لا تنعم المدارس الإسلامية بذات السخاء." ويواصل "دوبريه" التعرض لقضية حرجة بشأن قتل شاب يهودي، في 2006، بصورة وحشية من قبل جماعة إجرامية بعد حبسه كرهينة وتعذيبه وترأس تلك الجماعة "يوسف فوفانا"، فرنسي المولد ووالده مهاجر من "ساحل العاج"، وسجن علي ذمة القضية 19 متهما شاركوا في الجريمة في أحكام تراوحت بين سنتين و30 سنة.. يقول "دوبريه": "ومثل آخر، وهو ما حدث في القضية المعروفة باسم "عصابة البربريين" الذين قتلوا شابا يهوديا (إيان حليمي) وأصدرت المحكمة الحكم بالسجن المؤبد علي المتهم الرئيسي وأعتبر المدعي العام الحكم عادلا بتوقيع أقسي عقوبة. ولكن الجالية اليهودية رفضت الحكم وأجبرت المدعي العام علي التراجع عن رضاه وتقدم بدعوي استئناف للحكم ليرضي الجالية ولكي تصدر أحكاما أكثر قسوة من السابقة. وكان ذلك التدخل والتراجع سابقة لم تحدث من قبل وأثارت غضب رجال القضاء." ويواصل "دوبريه" تفاصيل بشأن التفرقة في التعامل مع الجاليات الدينية الفرنسية فيقول: "مثال آخر، فعندما يحدث تدنيس لمعبد أو لمقابر يهودية يهرع وزير من باريس وحاكم المحافظة لمكان الحادث في حين لو خص التدنيس مسجد أو مقابر للمسلمين فرئيس مجلس البلدية يكفي. فهل الحادث كان اعتداء أم حريقا؟ قبل التحقق من الواقعة التي يتضح أحيانا أنها أكذوبة يسرع رئيس الوزراء بتناول "الميكرفون" ليدلي بتصريح لإدانة معاداة السامية ويذاع الخبر كل ربع الساعة فيما يخص الجالية اليهودية وليس فيما يخص الأخري." ولم يذكر "دوبريه" أن العديد من الإدعاءات تبين بعد التحقيق كذبها وأن العدوان علي أماكن يهودية كانت بفعل يهودي طرد من عمله بها. وأنه في حادثة إدعاء سيدة بالاعتداء عليها في قطار ضواحي باريس ثبت أنه لم يحدث وأنها اختلقت الحادثة بادعاء أن بعض الأفراد مزقوا ملابسها ورسموا علي جسدها الصليب النازي. وأنه لم يتم القبض علي المعتدين علي أماكن العبادة ولا المقابر لا اليهودية ولا المسلمة. ويتعرض المفكر لتفصيل إضافي يخص مأدبة العشاء السنوية التي ينظمها "كريف" أي (المجلس الممثل ليهود فرنسا) فيقول بأنه "في تلك المأدبة يلزم أن يكون كل الوزراء موجودين ومن يطمحون في منصب وزاري ويتحملون إبان المأدبة تأنيب رئيس المجلس. وفقط الممنوع من العشاء هو "حزب الخضر" لأنه من المتعاطفين مع الفلسطينيين وبرغم أن الخضر لا يكفون عن المطالبة بأن يتم قبولهم كجزء من المجموعة الوطنية. وبجانب أن من يشارك عادة في المأدبة كان رئيس الوزراء فأصبح الآن رئيس الجمهورية شخصيا وينقل التليفزيون مباشرة حفل العشاء.". ولم يتعرض "دوبريه" لتفاصيل هذا التأنيب وهو باختصار إصرار علي القول بتزايد حوادث معاداة السامية في فرنسا وضرورة العمل علي مواجهتها بفاعلية أكبر ولكن الأهم هو الانتقادات التي توجه للحكومة لسياستها الخارجية حيال الفلسطينيين، وكان ذلك صارخا حينما استقبلت فرنسا "ياسر عرفات" للعلاج وبشكل أخص كرد فعل لمراسم توديع جثمانه رسميا، إذ ذهب "جاك شيراك"، رئيس الجمهورية حينها، مرتين لتحية أبو عمار حيا وميتا. وشارك رئيس الوزراء ورئيس البرلمان الفرنسي وكبار رجال الدولة في مراسم توديع مهيب لجثمان عرفات ملفوفا بالعلم الفلسطيني ومحمولا بحرس الشرف الذي تخص به فرنسا أبناءها الذين ماتوا في ساحة المعركة. ولا يغفل "دوبريه" ما يحدث في الإعلام ولكنه يقلل من تأثيره في المستقبل فيقول: "لا يجب المبالغة في تأثير الجماعات الصغيرة التي تحكم الحياة الباريسية بشكل دائم حيث تتواجد في افتتاحيات المجلات الأسبوعية والأعمدة الدورية ويتوج كل منهم الآخر بالفيلسوف الكبير والمخرج العبقري والممثلة المدهشة والصحفي الكبير... فأمراء الفكر يدورون بالفعل ولكنهم يدورون حول أنفسهم. إذ في عصر الانتقال السريع من موضوع لآخر في المواقع والمدونات علي انترنيت سينتهي عهدهم. وفي انتظار أن يتم ذلك فإن كوكبة الفكر تسهر علي سعادتكم علي مائدة رئيسنا وفي الراديو والتليفزيون والجرائد اليومية والأسبوعية باستثناء واحدة أو اثنتين تتمتعان بعناية صغيرة وتسمي صحف "مناصرة للفلسطينيين" قليلة التأثير." وانتقاد السياسة الخارجية له أهميته إذ منذ ثلاثين سنة تشن كل الأحزاب السياسية حربا دون هوادة ضد اليمين العنصري المتطرف الذي يمثله "جان ماري لوبن" ومن هنا يظهر التناقض في العلاقة مع إسرائيل ويكشف عنه "دوبريه" بقوله: "لقد استقبلت باريس دون خجل ولا تأنيب ضمير وزير خارجيتكم "إفيجور ليبرمان"، وهو "لوبن إسرائيلي" في حين أن باريس طردت إلي "فينا" وباستهجان "لوبن النمسا". فهكذا يوجد صوتان.. معياران. فالمتحدث الرسمي باسم حكومتك يمكنه التحدث في الراديو في ساعات الاستماع الكبيرة دون أن يناقشه فلسطيني فيما يقول وسيكون مدهشا لو حصل العكس." تكريم الضحية ويصل "دوبريه" إلي استنتاجاته ويطرح تساؤلات هي أيضا في صيغتها النافية إجابات : "كل هذا التكريم والميداليات الذهبية للضحايا لا تجلب دائما الفوائد. إذ وجه لي يوما أب تلميذ السؤال : "لماذا تقدمون كل هذا الاعتذار عن الذنوب في معسكر اعتقال "اوشفيتز" النازي ولا تعتذرون لسكان "سطيف" ؟" (قتل الفرنسيون في 8 مايو 1945 حسب المصادر الجزائرية 45 ألف شخص أثناء مظاهرة، ويقدر بعض المؤرخين العدد بأقل ثلاث مرات) ففرنسا وليست ألمانيا هي من قتلت أولادنا؟ وماذا عن مدغشقر ؟ والهند الصينية ؟ كل هذا لا يعنيكم ؟ ولماذا لا يشغلكم أمر سجين مزدوج الجنسية فرنسي- فلسطيني هل هو ليس بإنسان فعندما يكون الرهينة فرنسي- إسرائيلي (شاليط) تعلق صوره علي وجهات مباني مجالس المدن ؟ هذا هو ما تهمس به الأفواه في الأسرة والأسواق والمدن. هل هو غير صحيح وعلينا أن نسد آذاننا؟ ويسعي "دوبريه" بما يشبه ضربة عنيفة علي منضدة الحوار لكي يفيق العقل الفرنسي والأوربي من عقدة الذنب التي تثقل كتفيه وتمنعه من اتخاذ مواقف داخلية وخارجية متسقة وعادلة والكف عن النواح علي جرائم الأجداد الذين ماتوا مثلهم مثل ضحاياهم فيقول: "لقد كانت فرنسا مع الدنمرك أقل البلدان التي سلمت يهودها للنازيين وتواجد فيهما اكبر عدد من "العادلين" الذين اخفوا اليهود عن عيون من يبحثون عنهم." ثم يدخل علي الوراثة ليعينه في دعم فكرته بقوله: "فأنا لا اعتقد أن هناك انتقالا وراثيا يجعل منا متعاونين أبديين وبالفطرة "مع النازيين" مثلما لا اشعر بالحاجة عن التكفير عن أخطاء أعدائي. ولا أضع علي الجمهورية الفرنسية اليوم وزر الجرائم القبيحة التي ارتكبها نظام حماية ألماني مقره مدينة "فيشي" بعد موت الجمهورية بالاستسلام." أنت تقول إنه من القبح الخلط ومقارنة ضحايا اليهود إبان النازية بضحاياكم أنتم من الفلسطينيين وأنت محق فما يتعرضون له ليس من ذات الصنف. واعترض بدوري علي الخلط واعتبار "المناصر للفلسطينيين - متعفن". ويسخر بقوله "فملائكتكم الذين يحرسون السفينة المقدسة لا يكفون عن التدقيق بالعدسات المكبرة في كل كلمة وفصلة. فمعاداة السامية كوسيلة للاتهام هي لكسر عزة الآخر وأصبحت كالعفن "المكارثي" ينمو في حارتنا وصفوف مقاعدنا." (نسبة للمكارثية وهي اللجان التي شكلها السيناتور الجمهوري "جوزيف مكارثي" وكانت تحاكم المثقفين والفنانين، في الولاياتالمتحدة، بتهمة الشيوعية في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي). ويضيف "دوبريه": "لقد تزايد عدد المخبرين المتخفين في أثواب كتاب لاصطياد أهل القلم مثل الكاتب "جان جينيه" وعالم الاجتماع "بيير بورديو". بل إن ملفات بعض المفكرين اليهود المخالفين في الرأي مازالت في دور الفحص ووضعوا في "القوائم الرمادية" مثلما حول الحال مع الفيلسوف عالم الاجتماع "ادجار موران". ولتوضيح ما يقوله "دوبريه" تجدر الإشارة إلي أنه ظهرت كتابات ومقالات تتهم "جينيه" بمعادة السامية بعد كتابه عن "صبرا وشاتيلا" وكتابات أخري عن فلسطين وعن فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية وتم توجيه نفس التهمة إلي"بورديو" لكتابه "الورثة" من قبل بعض المفكرين من اليهود. أما "ادجار موران" فقد رفعت "جمعية فرنسا - إسرائيل" ضده قضية بسبب مقال نشر في صحيفة "لوموند"، في 4 يونيو 2002، بعنوان " إسرائيل- فلسطين : السرطان" ينتقد فيه بعنف السياسة الإسرائيلية ويقول بأن استخدام كلمة "المحرقة" للتعبير عن تفرد معاناة اليهود قلل من شأن ما حدث ويحدث في العالم من مآس أخري (ومنها ما يتعرض له "الغجر" و"هنود أمريكا") وتمنح التبرير للاستعمار وفرض "جيتو" علي الفلسطينيين. وأن السرطان الإسرائيلي - الفلسطيني نتاج معاناة تاريخية لشعب يخاف من انعدام الأمان الجغرافي وللطرف الآخر من تعاسة شعب مقهور في حاضره ومحروم من حقوقه السياسية." ووقع المقال مع "موران" كل من الكاتبة "دانيل سلناف" والمفكر السياسي "سامي نائير" وصدر ضدهم الحكم بغرامة ثم براءة في الاستئناف).