تتجه الحكومة البريطانية لتعديل جملة قوانين صدرت في أعقاب الحادث الارهابي ، الذي شهدته « لندن » في يوليو عام 2005 . وقد تعرضت تلك الاجراءات والخطط لانتقادات شديدة من منظمات حقوقية رأت فيها التخطي للارث الليبرالي والضوابط التي رافقت كل القوانين وتنفيذها ، في أشد المراحل ضراوة ، خلال الحروب القاسية مع النظام النازي ، وأيضاً عبر المواجهة الدامية الحادة مع المنظمات الأيرلندية . وقد اندفعت حكومة « العمال » السابقة لاصدار الخطط وطرح القوانين علي البرلمان ، لتأكيد أن قواعد اللعبة تغيرت وأن الارهاب يحتاج لمواجهة حاسمة تتخطي الظروف التقليدية . وقد عاند « البرلمان» الحكومة في اصدار قوانين لا تتمشي مع المناخ الديمقراطي والليبرالي في البلاد . حاولت الحكومة مراراً اقناع البرلمان بتعديل قانون حجز العناصر الارهابية المشتبه في تورطها بتلك الجرائم . كان السعي لمنح الأجهزة الأمنية فترة تصل الي 45 يوماً لاتمام التحقيقات قبل تقديم المتهمين الي القضاء ، غير أن البرلمان لم يوافق سوي علي 28 يوماً فقط ، ولا تزال المنظمات القانونية تعتبر هذه الفترة طويلة للغاية ، ولابد من العودة الي النظام السابق الذي كان 14 يوماً فقط للانتهاء من التحقيقات ، واما تقديم القضايا الي القضاء وإما الافراج عن المتهمين . ضد الليبرالية والحقيقة أن الحكومة العمالية السابقة اندفعت الي ابراز أنيابها الحادة في مواجهة منظمات الارهاب، وضحت بالكثير من ضمانات قانونية سابقة ، وكان هذا محل انتقاد ومعارضة ومطالبة بعدم التضحية بالارث الليبرالي في معركة المواجهة مع الارهاب ، وكان المجتمع بهذا يخسر مكاسبه التي تحققت عبر أجيال طويلة ومن خلال مسيرات لمساندة الحريات وتحقيق الضمانات . وشجعت الحكومة خلال فترة حزب العمال علي اطلاق يد الأجهزة الأمنية في تجميع المعلومات والتجسس علي أفراد الجالية الاسلامية ووضعها كلها في قفص الاتهام والشك ، وتعريض أفرادها للتفتيش وهجمات أمنية وقائية للبحث عن أسلحة أو ما يثبت وجود علاقة مع منظمات أو خلايا ارهابية نائمة . وقد تعاقب علي وزارة الداخلية وزراء اعتبروا التشدد هو الطريق الوحيد لمقاومة تسلل نفوذ الارهاب وحماية المجتمع ، لكن خططهم تعرضت للنقد العنيف ، اذ تجاوزت ارث المجتمع وتقاليده ، وعرضت جالية كبيرة : هي الاسلامية ، لاجراءات فيها اهانة وبعض التعسف مع اخضاعها للرصد والمراقبة والتشكك في الولاء . هذه النظرية الأمنية الفاسدة تعثرت في ضمان الأمن لأنها لا تخضع للقواعد الديمقراطية والقانونية. الجالية الإسلامية تعد الجالية الاسلامية في بريطانيا الأكثر التزاماً بالقانون مع حرصها علي الامتزاج والانخراط مع دوائر المجتمع البريطاني والتفاعل مع قضاياه المختلفة . وهناك حيوية اسلامية علي ساحات العمل البريطاني وداخل الحكومات المحلية بالاضافة الي انخراط في مسارات التعليم والتعدد الثقافي بكل أشكاله . وقد أدت سياسة التشدد لعزل الجالية مع اتهامها كلها بالتورط في نشاط ارهابي ، وهذا غير حقيقي ، اذ هناك التزام بدولة القانون وعدم الخروج عليه . وقد استفاد المسلمون من ديمقراطية بريطانية ، تسمح لهم ببناء المدارس الاسلامية وتشييد المساجد ودور العبادة وممارسة حياتهم بحرية شبه مطلقة دون تدخل من الدولة أو المجتمع . أدي حادث ارهابي في يوليو عام 2005 الي خلط الأوراق بدرجة شديدة ، خصوصاً أن رئيس الوزراء الأسبق توني بلير كان أكثر تطرفاً في اجراءات حادة ، اذ اعتبر الحادث اعلان الحرب الشاملة علي ساحة عريضة ، ودعا المجتمع الي الاستنفار ودخول هذه المواجهة ، التي اعتبرها طويلة ومصيرية . كان « بلير » يعكس أفكاره المنحازة الي الرئيس الأمريكي المتطرف جورج بوش الابن. وعندما تولي رئيس الوزراء السابق جوردون براون رئاسة الحكومة بعد تنحي توني بلير ، اشتعلت عدة حوادث ارهابية فاشلة ، مما ساند اجراءات أمنية وقائية ، سارت علي الطريق القديم نفسه ، وتعرضت للنقد أيضاً ، غير أن « براون » كان يظهر التشدد حتي لا يتهم بالضعف والتخاذل من خصومه الآخرين داخل حزبه وفي قلب المعارضة المحافظة . وقد ظل الحزب الليبرالي الذي دخل الحكومة الحالية ، يعارض هذه الاجراءات ويطالب بالعودة الي القانون الطبيعي والتمسك بالتراث الديمقراطي ورفض عزل الجالية الاسلامية أو قبول الضغوط العنصرية التي تدفعها بعض القوي لتحقيق التمييز والفصل . كان لدخول الحزب الليبرالي الحكومة الائتلافية الأخيرة ، أكبر الأثر لاعادة النظر في الكثير من القضايا ، ومنها ملف الارهاب وفحص الاجراءات السابقة والخطط الوقائية ، التي نجم عنها التوتر والاحتقان وزيادة مشاعر العزلة لدي جالية كبيرة يضمها المجتمع البريطاني . فتح النوافذ والواضح أيضاً أن حزب المحافظين الذي يحكم مع الأحرار ، تغير بدرجة ملحوظة ، فقد تعلم خلال سنواته في المعارضة الابتعاد عن سياسات التطرف والميل الي الاعتدال . وكان الحزب أسند وزارة دولة لبارونة مسلمة هي سعيدة وارسي ، ومن جانب آخر فتح الباب أمام التفاعل مع الأقليات ودعوتهم لحضور مناسبات والحوار معهم . ويقول نواب محافظون ، أن الحكومة الحالية راغبة في التعامل مع جميع تكوينات المجتمع البريطاني ، وهناك الحاح علي فتح النوافذ والأبواب لاستيعاب أبناء الأقليات في مؤسسات المجتمع والتفاعل الحقيقي لخدمة الديمقراطية وأشكالها المتعددة . أسندت الحكومة حقيبة الداخلية الي الوزيرة تريزة ماي ، وهي مدافعة أصيلة عن ثوابت المجتمع البريطاني ، وكان من أولي خطواتها اعادة النظر في موضوع مواجهة الارهاب ، والعودة الي السلاح الديمقراطي والقوانين الطبيعية ، التي تنظر الي النشاط الخارج علي القانون في حدوده وعدم معاقبة الآخرين أو اتهامهم أو محاولة مطاردتهم أو تضييق الحياة عليهم . هذا التوجه الجديد لوزيرة الداخلية تريزة ماي ينزع أنياب التوتر التي انزرعت خلال السنوات السابقة ، اذ سيتم وقف كل الاجراءات الاستثنائية والعودة مرة أخري الي القانون الطبيعي. لقد تقدمت المجتمعات الغربية اعتماداً علي القانون وصيانته وعدم خرقه أو تجاوزه ، وهذه هي القاعدة التي ضمنت الانتصار علي النازية الألمانية ، وكانت أيضاً السلاح الذي تم التعامل به خلال مرحلة الكفاح الأيرلندي ، لأن الجالية الأيرلندية لم تتعرض للشك فيها أو لاجراءات استثنائية خلال المواجهة الدامية مع الجيش الأيرلندي الجمهوري . تعود حكومة الائتلاف الجديدة في لندن لنبذ ترسانة من اجراءات لا تتوافق مع مجتمع يحترم العدالة ويدافع عنها ، ويراعي ضوابط حقوق الانسان ، وهناك مؤسسات قوية تدافع عن هذا الارث وقاومت تجاهله بكل السبل والطرق . تعود بريطانيا الي ارثها الذي جعلها تحظي بهذه المكانة المدافعة عن حقوق الانسان والأقليات ، وتوفير ضمانات كاملة لا تخرج علي روح القانون العادي . هذا التوجه ينهي الاحتقان وينزع المخاوف ويعيد علاقات طبيعية فاعلة بين أفراد المجتمع الواحد ، الذي تتعدد دياناته وألوانه. ورحب المجلس الاسلامي في بريطانيا بقرار وزارة الداخلية ، اعادة النظر في استراتيجية قديمة تعرضت للنقد ، لأنها لم تكن تتناغم مع قيم المجتمع الديمقراطية والليبرالية ، وكان من جراء تنفيذها زيادة جرعة الاحتقان والتوتر . والمجتمعات لا تتنفس بهذه السلبيات ، وانما تنمو في ظل ثقة وتحت راية القانون ، التي تظلل الجميع ، ومن يخرج عليها يستحق العقاب علي فعله فقط ، ولا يدفع آخرون أبرياء ثمن جريمته . هناك حالة من استرداد الوعي الغائب واعادة طرح مكافحة الارهاب بالديمقراطية والمزيد من الحرية وحقوق التعبير ، ونشر المساواة وترسيخ سلطة القانون ، الكفيلة وحدها بحصار المخربين واصطيادهم وتكبيلهم لمنع تحقيق هدفهم بتقويض المجتمعات الحرة لصالح أفكار سوداء مدمرة .