مات الدكتور علي، وقع ما لابد أن يقع، الآن يرقد وحده بعيدا جدا جدا جدا.. مات الدكتور علي وهو يؤمن بفكرة الخلود الحقيقي مثلما عرف أجداد أجداده المعني الحقيقي للخلود الذي نراه ونلمسه ونعيشه يوميا بما تركوه من أفكار وأعمال وإنجازات -تحيط بنا من كل جانب – مصرية خالصة علي أرض مصر، نابعة من ضرورات حتمية مصرية.. هذا الإيمان شكل الطريق التي يتعامل بها مع كل القضايا. لعلي لم يبلغ بي الضيق والحيرة مثل هذه اللحظة التي أكتب فيها عنه فهذا الإنسان المفكر المناضل يملك في أكثر مما أملك أنا ولم تكن علاقتي به علاقة تلميذ بأستاذ لكنها كانت علاقة ذات طابع صوفي علاقة المريد بشيخه.. لقد كنا كمجموعة أحيانا نطلق عليه الحكيم كما يطلق الفلاحون هذا الوصف علي الأطباء والذي كان يحمل في نظرهم ليس الطبيب فقط بل ما هو أبعد من ذلك بكثير ولم أسمع من صديقي زيدة عباس حينما يتناوله اسم الدكتور علي بل كان يكتفي بقوله الحكيم فتعرف من كان يقصد، كان بالنسبة لي الحكيم والشيخ والمعلم والمناضل وكنت أري نفسي المريد والصبي والتلميذ الذي كان في الغالب غير نجيب. أصبح الأمر يتطلب بالنسبة لي إلي شيء يملأ بوجوده هذا الفراغ الهائل الكبير هذا الفضاء الغريب والمريب الذي يفرد جناحه علينا يحاول أن يحبطنا بعالم جديد ومصر جديدة يضيق بكل شيء يتسع للا شيء غير ما يراه وهو عالم تملؤه الرهبة والرعب. وبعد أن كنا نسير في ضوء نهار في طريق يحقق حلمنا لمصرنا الجميلة مصر العدالة والحرية والمستقبل والآمال لأبناء وأحفاد يستحقون حياة أفضل وأرقي يطل علينا ليل يأخذنا إلي ظلام دامس تصاعقت فيه هذه المخاطر وبعض بكثير من المتربصين بمن يحلمون بغد يسوده العدل. يطل علينا الدكتور علي هو ورفاقه الذين سبقوه والذين سيلحقون به وفي أعماقهم هدير صاخب يقول ويصر ويلح أنتم أيها المصريون أنتم أيها الشعب المستعصي علي الفناء يا أبناء الفلاحين أقوي وأعظم من عاش علي أرض النيل يزرع ويهب النماء تحت هذه السماء لقد أعطيناكم الكثير من الشموع القادرة علي إزاحة هذه الظلام وإضاءة الطريق بما تركناه لكن من تراث فكري وتجارب عملية ورؤي ودراسات مصرية واقعية قادرين علي عبور هذه المرحلة فقط افعلوا ما يجب عليكم فعله واكملوا المسار الذي فني فيه جيلنا من رواد الحركة الوطنية المصرية لتحقيق حلم الاشتراكية الجميل لأطفالكم ولأبنائكم. وهنا يحدوني الأمل أني قادر علي عبور هذه اللحظة من الضيق والحزن التي أشعر بها وأعيشها الآن. الدكتور علي كان لقائي به ودراساته التي أسهم فريق كفر الشيخ بكتابتها معه وتحت إشرافه وتوجهه كانت غالبا وفي معظمها تبدأ بدراسة تفاصيل الواقع المحلي.. أدق التفاصيل كما يراه من يعيشونه ورصده بدقة فتجد أنك قد تحددت أمامك ملامح وقسمات هذا الواقع فيمكنك التعرف عليه المعرفة الصحيحة ثم تبدأ في تركيب وتشكيل الصورة الذهنية المعبرة عنه وعن المسار الذي يسير فيه وتستعين بأهله للتعرف علي طرق تعديل هذا المسار لصالحهم.. هذا كان منهجه وما سلحتنا به دراساته المهمة جدا ولكن أهميتها في الحقيقة تكمن في المنهج والأسلوب اللذين تتم بهما كتابته. ولأنه كان مصريا غارقا في مصريته، وفلاحا من رأسه إلي قدميه ومفكرا وفيلسوفا.. كل الأشياء تبدأ مما يحيط به من تفاصيل الحياة المصرية كانت له مفردات غير متداولة عند الكثير ممن قابلتهم من غيره من المفكرين والمناضلين. فهو يغلب عليه في كلامه كله المواطن العادي، البائع الجائل الفلاح القراري – الفلاح البراري – الأجراتي – الغيط – التربيعة – اللحف – الناف – المرد – اللنتوت وغيرها ثم المساقي والمصارف والترع.. إلي الجمعية والأسمدة والبذور.. ثم إلي الجمعية التعاونية .. ثم التركيب المحصولي والأمن الغذائي انتقالا إلي التنمية المستغلة بالاعتماد علي الذات وحركة التحرر الوطني. كثيرون وغيره كانوا يبدأون بالصراع الصيني السوفيتي – الإمبريالية – الصراع الطبقي – الصراع الفلسطيني – الفلسطيني وكان هذا تناوله الدكتور علي كإطلالة للتأصيل النظري أحيانا للدراسات الواقعية وهذا ما كنت غالبا أسمعه منه وهذا لا يعني أنه كان له حواراته الأخري مع آخرين من أهل الحضر أبناء الأممية أما من هم غارقون في مصريته أمثالي فكان هذا ما أفضل أن أسمعه وأعرفه وما كان الدكتور علي يملك ناصية مصر البداية والنهاية الأول والآخر وقريتي قبل كل اعتبار، كنت قادرا علي المداراة موجودا عند الحكيم الدكتور علي أكثر مما عند الكثير من معه وحتما كان مثقفو مصر يتحدثون عن الصراع بين الفصائل الفلسطينية وعن حروب المياه القادمة في إطار دولي كان هو يحدثنا عن موارد النيل وحصة مصر فيه وعن فقر المياه في مصر وأثيوبيا وكينيا وأوغندا ومشاريع زيادتها والمخاطر حول حصة مصر من المياه. أخيرا.. لقد اغتيل الدكتور علي ثلاث مرات مرة علي يد هذا المرض الرهيب الذي لا يرحم ومرة علي يد تلاميذ ورفاق أفني عمره وسطهم كان أقرب إليهم من حبل الوريد ومرة ثالثة علي يدي حينما أحاول الكتابة عنه فلن أعبر ولن أقدر أن أوفيه القدر البسيط من حقه الذي يستحقه. لذا قصدت أن أقترب منه جدا حتي لا أشعر بتأنيب الضمير وتقصيري في الوفاء له. تكلفة السير في استكمال ما هو مطلوب ثقيلة جدا جدا وطريقها صعب وحيويته تزداد في أحوال نعيشها لا تطمئن وما دام وقع ما لابد أن يقع مرة أخري علينا أن نفعل ما لابد أن نفعله.