إيقونة جنوب إفريقيا لم أهتم أبدا بلعبة كرة القدم، علي الرغم من هوس اشقائي بها، ومن ممارستي للعبة كرة السلة، أثناء دراستي في المرحلتين الاعدادية والثانوية، وخوضي مباريات تنافسية ضمن فرق المدرسة علي مستوي محافظتي القاهرة والجيزة، وفي إحدي تلك المباريات اقتربت مني «هالة» كابتن الفريق المنافس وقالت لي : لقد أصبحت خطرا علينا، وسددت الكرة إلي وجهي بعنف، وحين حاولت أن اتفاداها، وقعت علي وجهي، فداست بكل قوتها علي كف يدي اليمني فكسرت إصبعي الخنصر، فاضطرت كابتن فريقي إلي اخراجي من المباراة، فهجرت كرة السلة منذ ذلك الحين وكففت عن الاهتمام بها، ومازلت حتي اليوم أعاني من ألم في هذا الإصبع. في المرات القليلة التي اهتممت فيها بكرة القدم، كانت لأسباب سياسية، تتعلق بمنافسة الفريق القومي لفرق أجنبية، كنت أبحث خلالها - كما معظم المواطنين- عن نصر داخل ملاعب الكرة قد افتقده في ملاعب السياسة، وربما ملاعب الحياة. وبرغم المناحة القومية التي نصبها الإعلام بكل أنواعه، لأن مصر خسرت في المفاضلة بينها وبين جنوب إفريقيا، استضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم للعام الحالي، فقد كنت واحدة من بين قليلين، ممن اعتبروا فوز جنوب أفريقيا، فوزا للقارة السمراء، التي تصبح هي المرة الأولي التي تقام علي أرضها تلك البطولة الدولية، وآنذاك قلت كما يقول البسطاء «في بيتها». وفي مباراة مصر والجزائر تمنيت أن يفوز الفريق المصري، وحين خسر قلت «في بيتها» ففي كل الأحوال هو فريق عربي يمثلنا جميعا في كأس العالم. لكن هذا لم يكن رأي «المتورطين» في لعبة كرة القدم، الذين قاد بعضهم الأمور إلي أزمة دبلوماسية بين البلدين لم تقف عند هذا الحدث. بل تجاوزت ذلك إلي مشاحنات دائمة وتبادل لمشاعر البغض والكراهية والتجريح في كل محفل يجمع بين أبناء الشعبين، المصري والجزائري! بدأت مباريات كأس العالم الأسبوع الماضي وتستمر حتي الحادي عشر من يوليو، لتعيش «جنوب أفريقيا» شهرا كاملا من العسل، تسلط عليها الأضواء من كل حدب وصوب، ويتأمل باعجاب كل من يعنيه الأمر، كيف نجحت هذه الدولة النامية، الخارجة توا من حروب أهلية عنصرية مريرة، في الاستعداد لهذا الحدث الدولي المهم، وكيف امتلكت القدرة والإرادة من قبلها لإعداد عشرة ملاعب بمستويات كفاءة عالية، في تسع مدن خلال سنوات قليلة، لاستقبال اثنين وثلاثين من الفرق الدولية المشاركة في البطولة. اعادت بطولة كأس العالم التذكير بالتاريخ البطولي لشعب جنوب افريقيا في مكافحة قوانين الفصل العنصري، التي خلفها الاستعمار البريطاني علي امتداد نحو تسعين عاما، والتي منحت المستوطنين البيض كل الحقوق وسلبتها من السكان السود والملونين والهنود، وامتدت إلي عمليات عزل وترحيل قسري للسود وحرمان من الجنسية والحقوق السياسية، ومن الخدمات العامة ، ومن الحق في التملك بالاضافة إلي احتكار المستوطنين البيض ثروات البلاد ومواردها وإدارتها، مما صعد من الانتفاضات الشعبية المتكررة ضد هذه السياسة، وتعددت سبل النضال الشعبي من أجل الغائها، وهو ما انتهي باعتقال قائد هذا النضال المناضل الافريقي نيلسون مانديلا نحو عشرين عاما، وقد اسفر هذا النضال، عن اجراء الرئيس الجنوبي افريقي فريدريك وليم دي كليرك أول انتخابات ديمقراطية متعددة الاعراق في عام 1994، حصل فيها حزب المؤتمر الوطني الافريقي بقيادة مانديلا علي الاغلبية، ليقود البلاد وهو في السلطة، بعد أن قادها وهو في المعارضة، ولتجعل التجربة المناضل ياسر عرفات يتمني أن يجد شبيها لدي كليرك في إسرائيل لحل القضية الفلسطينية. الموعظة التي تلقي بها دولة جنوب افريقيا في وجه من يريد أن يتعظ، أن هذه الدولة التي تمت التفرقة بين مواطنيها علي أساس اللون والجنس والدين والعرق ، والتي كانت موطنا لتصدير العبيد إلي أوروبا، قد استطاعت التغلب علي كل أشكال الانقسامات بالتوصل إلي حل ديمقراطي حقيقي، يتعامل مع الشعب كوحدة واحدة، يستطيع أن يحقق طموحاته في النمو بشكل ديمقراطي، ويختار من يحكمونه، بارادته الحرة، سواء كانوا بيضا أو سودا أو ملونين. فالحكم الديمقراطي، هو حكم غير عنصري، يتساوي فيه المسيحيون والمسلمون والوثنيون واللا دينيين، ويتعاون فيه الجميع من أجل رفع كفاءة الخدمة العامة، وحل المشاكل التي تعترض نموها وتطورها. هذه الروح هي التي مكنت جنوب افريقيا من الفوز باستضافة كأس العالم، هي الروح التي تضع تحت الضوء، ما تستطيع الديمقراطية الحقيقية أن تفعله في صهر شعب وبناء أمة وتقدم وطن، وهي الأيقونة التي يتباهي بها الآن شعب جنوب افريقيا أمام كل الثقافات والاجناس سواء تلك التي تشارك في البطولة الدولية، أو تلك التي تتابعها من الخارج.