إصابة نحو أكثر من اربعة الاف مواطن بحالات تسمم نتيجة لتلوث مياه الشرب في إحدي القري المصرية ليس المشهد الأول ولن يكون الأخير في مأساة تلوث مياه الشرب التي يعاني منها شعب مصر . أقول ذلك ومصر بلد النيل ، والمتتبع لسجل تلوث مياه الشرب في مصر لا يتوقف عن ما حدث بالأمس القريب ، وعلية ان يتابع ملايين الحالات التي تعاني من الفشل الكلوي والمصابين بفيروس سي في مصر . غير أن المشكلة تفاقمت بإتباع محافظ المنوفية المستشار اشرف هلال لنفس أسلوب عصر الطاغية مبارك ، بإطلاق تصريحات تبين أن المسئولين عن الإدارة السياسية لمصر يعيشون في أبراج عاجية بعيداً جداً عن معاناة الشعب المصري . وتلك الواقعة تفضح عجز مرفق مياه الشرب والصرف الصحي عن تقديم خدمة كوب ماء نظيف يشربه المواطن المصري ، الأمر الذي يلقي في نفسي شكوكا قوية ، خاصة بعد زيارة رئيسة البنك الدولي كريستين لا جارد الي مصر ، في إطار سعيها لتقديم قرض لمصر يقترب من خمسة مليارات دولار، من أن تستغل تلك المؤسسات الدولية الحالة المتردية لمرفق مياه الشرب في الضغط علي مصر لأستمرار في تنفيذ برنامج الخصصة – الذي أفقر الشعب المصري في عصر الديكتاتور المخلوع مبارك – وتطالب بخصصة مرفق مياه الشرب كما فعل البنك الدولي مع العديد من دول العالم النامي. الماء كالهواء وليس هناك خدمة أهم من توفير الماء ، فمثل الهواء ، لا غني عن الماء لاستمرار الحياة . وحتي تسعينيات القرن الماضي ، كانت إمدادت المياه تعد من السلع العامة في البلاد النامية ، وليست سلعة للتداول في السوق . ومنذ ذلك الحين أصبحت خصخصة الخدمات العامة ، بما فيها إمدادات المياه ، وبصورة متزايدة شرطا للحصول علي المساعدات وإلغاء الديون . وقد أعلنت الأممالمتحدة في عام 2002 ، إن حق الإنسان في الماء لا غني عنه إذا أردنا أن نصون للأنسان كرامتة . الإ أن البلاد الغربية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية تشجع علي تحرير وخصخصة الخدمات . ومن بينها إمدادات المياه . وهذا موقف يمكن أن ينتهك هذا الحق الأساسي في العيش الكريم . وتريد شركات المياه خصخصة أنظمة المياه العامة ، وتشجع المياه المعبأة ، وبيع المياه بالجملة بنقلها من المناطق الغنية بالمياه إلي الأسواق التي تعاني من شحها . ولتحقيق أكبر قدر من الفائدة ، تضغط الشركات كذلك من أجل إضعاف معايير جودة المياه ، وتدفع من أجل التوصل إلي اتفاقيات تجارة ، تتسلم الشركات الأجنبية مقتضاها موارد المياه. ويحصل 10% من سكان العالم علي ما يحتاجونه من المياه عن طريق شركات عابرة القومية . وأكبر شركتين في هذا القطاع هما سويز الفرنسية ، التي توفر الماء لحوالي 117 مليون شخص في العالم وفواليا التي تخدم 108 ملايين شخص . وقد بلغت عوائد فواليا ، التي تستخدم 77.800 موظفاً ، في عام 2006 حوالي 10 مليارات يورو. اخفاق الحكومات وتري شركات المياه أن الخصخصة ضرورية لمعالجة إخفاق الحكومات في تقديم الخدمات الأساسية . وحيث إن كثيراً من المشروعات التي تديرها الدولة تقدم خدمات سيئة . ولا تتمكن نسبة كبيرة من الناس في كثير من البلاد من الحصول علي الماء ، فلماذا لا نستعين بخبراء المياه؟ هكذا تطرح صناعة المياه المسألة . وقد يبدو الأمر معقولا ويمكن أن ينجح في البلاد التي يمكن لأي جهة فيها تقديم المياه والتي تتمتع بسلطات تنظيمية قوية . لكن هناك صعوبات تعترض ذلك في البلاد الفقيرة . فشركات المياه بحاجة لتحقيق الأرباح لترضي المساهمين . لكن تحقيق الأرباح من توفير المياه لمن لا يملك مالا غير ممكن ، كما تبين الوقائع . من هنا ، تغفل أتفاقيات الخصخصة أمور أكثر الناس فقراً . وتتطلع الشركات عابرة القومية إلي الحصول علي أموال محدودي الدخل ، لكن الاتفاقيات نادراً ما يتم التوصل إليها بطريقة ديمقراطية ، ولم تحسن خصخصة الإمدادات المائية من عملية توزيع المياه . وفي البلاد النامية تعد الخصخصة كارثة بكل المقاييس . وعلي سبيل المثال ، بوليفيا من أوائل البلاد التي قامت بخصخصة المياه ، ففي عام 1997 ، قام البنك الدولي بخصخصة نظام المياه المملوك للدولة في كوشابامبا ، ثالث أكبر مدن بوليفيا ، كشرط لتلقي البلاد فيما بعد المساعدات لتطوير مواردها المائية . وقد أدي هذا ، في سبتمبر 1999 ، إلي منح شركة تابعة لبكتل ، وهي شركة عالمية للهندسة والتشييد مقرها سان فرانسيسكو ، امتياز استغلال المياه لمدة أربعين عاماً . وكانت بكتل المتقدم الوحيد . وخلال أسابيع من أستيلائها علي مياه المدينة ، قامت شركة بكتل البوليفية ، برفع أسعار المياه بنسبة 50% وبأكثر من هذا في بعض الحالات . وقد قوبلت الزيادة بإحتجاجات غاضبة من الجمهور . وفي منطقة يقل فيها الحد الأدني للأجور عن 100 دولار شهرياً ، فوجيء الناس بزيادة بأكثر من 20 دولارا شهرياً . رفع مستوي الخدمات وقد أغلقت الإضرابات الجماهيرية مدينة كوشابامبا ، التي يسكنها حوالي نصف مليون شخص ، ثلاث مرات . وفي محاولة حماية عقد بكتل ، أعلنت الحكومة البولفية حالة الطواريء وشرعت في القبض علي الزعماء المحتجين من منازلهم في منتصف الليل . وقتل الجيش البوليفي صبياً أعزل في السابعة عشر بسبب الاضطرابات المدنية ، ليبدأ النزاع بين الحكومة والشركة الخاصة ، وعادت شركة المياه بالمدينة لتكون مملوكة ملكية عامة مرة أخري . انه من غير الممكن خصخصة شيء كالماء والهواء ، وإطلاق قوي السوق والسعي وراء الأرباح لتقرير من يشرب الماء ومن لا يشربه، وفي اعتقادي انه من الضروري أن تتدخل الدولة في النشاط الإقتصادي حتي تتمكن من رفع مستوي الخدمات التي يتطلع اليها المجتمع المصري . وأخشي أن يأتي اليوم الذي يشكل فيه حصول المواطن المصري وأسرته علي كوب ماء نظيف عبئا ماليا باهظا ، وفي ذات الوقت لا يجد سوي ذلك الكوب من الماء الذي فيه سم قاتل !! .