مناضلون يساريون فوزي جرجس «هناك يا ولدي طريق واحد واضح لا تناقض فيه إنه طريق الدفاع عن أرض الوطن، لقد خلقنا من ترابه فنحن جزء منه، فأرضه لحمنا وماؤه دمنا». فوزي جرجس «من رسالة لابنه جهاد الذي كان في الصفوف الأولي في جبهة القتال» خرجنا من السجن ودارت دوامة الحياة واختفي هذا الرجل الصامت المترفع المنطوي علي نفسه عن ناظري. وعندما بدأت في الكتابة عن تاريخ الحركة الشيوعية تذكرته وبحثت عنه حتي أضناني البحث ثم وبالمصادفة اكتشفت أنه جالس دوما علي كرسي في محل ضيق بشارع منحني من شارع السبتية وسط كومة من الخردة والمواسير وقطع الغيار القديمة، لكنني أعترف بأنني لم أعتصر منه إلا القليل من المعلومات المحايدة أما باقي المعلومات الحية فقد قدمها إلي ابنه جهاد بعد وفاته. ونعود إلي فوزي جرجس.. الوالد موظف بالسكة الحديد من أسرة قادمة من منفلوط، لكن الأب يرحل بعد مولد فوزي بثلاثة أشهر، وتدوخ الأم بحثا عن لقمة عيش للأطفال وتتاجر في بعض الحبوب، وفوزي يريد أن يتعلم لكن الطريق مسدود، الابتدائية تكفي وبها توظف في مخازن وزارة الصحة، لكن عشق المعرفة لاحقه علم نفسه اللغة الإنجليزية حتي أتقنها وترجم منها تراجم مبدعة، قرأ وقرأ حتي أصبح مثقفا مرموقا، وعندما أصدر كتابا في التاريخ هو «دراسات في تاريخ مصر منذ العصر المملوكي» تلقفه الكثيرون باهتمام بالغ، وعبر عشق الثقافة أتي، ففي النادي الديمقراطي حضر محاضرة ألقاها الدكتور الاهواني عن علم النفس ودخل مع المحاضر في جدل علمي - حين لفت الأنظار إليه فمدوا إليه يدهم، وتعرف هناك علي محمد نصرالدين المدرس بكلية البوليس وكونا مع مجموعة من المثقفين المصريين جماعة «ثقافة وفراغ» وعبر د. عبدالفتاح القاضي انضم مع مجموعته إلي الحركة المصرية للتحرر الوطني، ولأنه كان يتأذي من كثرة الوجود الأجنبي في الحركة فقد اهتم بتثقيف عديد من الشبان المصريين ومن ثم تلقف بترحاب المسئولية التي أُحيلت إلي قسم المثقفين وهي ترجمة عديد من الكتب الماركسية فيما أسمي ب «المكتبة الخضراء» (12 كتابا) ويروي في هدوء رزين بدأنا في ترجمة سلسلة الكتب الخضراء، كنا نترجم من الإنجليزية ترجمة متقنة ثم يراجعها متخصصون في اللغتين ثم يراجع النص العربي أحد أعضاء مجمع اللغة العربية، وبهذا قدمنا نموذجا متقنا يختلف عن الترجمات الشامية التي كانت تنفر الناس من قراءتها، وكنا نشرف علي الطباعة والتصحيح ثم تجلد بأغلفة خضراء ولهذا أسميت ب «المكتبة الخضراء». وتأتي حملة الطاغية صدقي في يوليو 1946 لتوجه ضربة شديدة للتنظيم، وهنا نقف أمام روايتين.. الأولي تقول إن فوزي جرجس ود. عبدالفتاح القاضي ومجموعتهما طالبوا بإحناء الرأس للعاصفة حتي تهدأ فلما رفض التنظيم انسحبوا وكونوا تنظيما صغيرا أسموه «العصبة الماركسية»، أما رواية فوزي جرجس فهي: «تبعثر التنظيم بعد الضربة البوليسية ولم يبق إلا قسم المثقفين فوجدنا أنفسنا دون ترتيب مسبق معزولين معا فكونا تنظيما هو العصبة الماركسية، المهم أننا نقف الآن أمام أول انقسام في الحركة الشيوعية الوليدة، كانوا حوالي الستين عضوا، انقسموا وكانوا يلتهبون حماسا لكنهم تبعثروا.. ويقول في حواره «غلبة المثقفين أضعفته اندفاعنا الثوري، وتردد البعض مثل د. عبدالفتاح القاضي فانسحبوا، ونقطة الضعف الأساسية أننا لم يكن لدينا محترفون ومن ثم خضع العمل التنظيمي للهواية ولأوقات الفراغ وهذا لا يمكنه أن يحقق أي تقدم»، ولكن ولأنك إذ تضع بذرة الانقسامية فإنك لا تجني سوي ثمار مريرة فإن منظمة الراية إذ تأسست أقنعت عددا من أعضاء العصبة بالانقسام لينضموا إليها، وكان الانقسام مريرا فقد خرج طوسون كيرلس بعد أن سلب من التنظيم «المطبعة» سلاحه الأساسي، وأحس فوزي جرجس بأن الخارجين خرجوا ومعهم كل أسرار التنظيم ليعطوها للآخر.. أي آخر، وهو لا يثق أبدا في الآخر.. أي آخر فأعلن حل التنظيم، لكنه بدأ في تشكيل تنظيم جديد هو نواة الحزب الشيوعي المصري، وظل متحصنا في هذا التنظيم الصغير جدا، رافضا الآخرين جميعا، وعندما توحد الجميع في إطار الحزب الشيوعي المصري، ظل هو مبتعدا، توحد الجميع ثم انقسموا وهو مبتعد في حصن من مجموعة صغيرة، انزوي بها في سجن الواحات في غرفة منفصلة نادرا ما يختلط أفرادها بالآخرين حتي أفرج عنه، وطوال سنوات السجن الطويل كانت زوجته فُتنة تحمل عبء الأبناء فاشتغلت خياطة، وعندما أفرج عنه رفض كل المجاملات والمحاولات لتوظيفه وترفع علي الجميع وانزوي وسط كومة من الخردة يشتريها متأففا ويبيعها متأففا وفي هذا المناخ المأساوي أثمر واحدا من أجمل وأعمق كتب التاريخ المصري الحديث. وفيما كنت أحاوره علي باب محله 98 شارع نفق السبتية اقتحمنا صبي يرتدي ثيابا متسخة بالمازوت: يا عم فوزي عايز صامولة 3 بوصة اختفي بريق عينيه وظل يقلب أكوام الخردة حتي أخرج الصامولة وقبض الثمن لكن بريق عينيه لم يعد. ابنه جهاد يكمل الحكاية «عندما حصلت علي الإعدادية قال أبي في حنان: الثانوية العامة ترف لا يليق بأبناء المناضلين ودخلت مدرسة الصناعات المعمارية، وتخرجت ثم إلي الجيش وفورا إلي الجبهة، وبتعليمات من أبي طلبت وألححت في أن أصل إلي خطوط القتال الفعلية، كان أبي قد عبأ كل طاقات حماسه ووطنيته في تشجيعي كي أحارب بشجاعة، وعندما أصبت كتب لي رسائل ملتهبة أن أشفي سريعا لأعود إلي الجبهة. لكن واحدة من الرسائل التي زودني بها جهاد تحكي كل المأساة ففي رسالة (14 أبريل 1970) وصله وهو علي خط النار الأول نقرأ «مضت مدة لم أكتب فيها، هي مشاغل الحياة، رغم تفاهة هذه المشاغل ولعل أكثر المسائل قرفا وثقلا علي النفس هي تلك المشاغل الممجوجة التي ترتبط بالبحث الممل عن لقمة العيش.. إن البحث الدائم عن لقمة العيش يميت القلب ويقتل الإحساس بأي جمال في الحياة، ولو أن الزمن فرض علي أن أتحول وفقط إلي آلة لكسب العيش لأصبحت الحياة شيئا كريها لا يطاق». إنها آلام الأيام الأخيرة في محل نفق السبتية وسط أكوام الخردة، وتبقي حكاية قصيرة قالها لي د. يونان لبيب رزق في حديث عن بداياته السياسية، «في بيتنا في شبرا كانت أمي تتحدث دوما عن قريبتنا الست فتنة الخياطة التي تشقي كي تطعم أولادها لأن زوجها مسجون شيوعي، وسألت نفسي لماذا؟ وبدأت في قراءة العديد من الكتب الماركسية، وعرفت كيف يضحي إنسان من أجل المبدأ.