تتشابه مسارات تطور الأوضاع التي تحيط برد الفعل على انقلاب النيجر, مع ما دار من أحاديث وتفاعلات حول "الهجوم المضاد" الأوكراني على روسيا هذا العام, مع الحديث المستمر عن غزو مؤجل للنيجر من قِبل دول الإيكواس. دول الغرب الإفريقي ليست في عجلة من أمرها للشروع في مغامرة محفوفة بالمخاطر. في الوقت نفسه الذي تحثهم فيه فرنسا على القيام بذلك, تمامًا كما دفعت الولاياتالمتحدة الجيش الأوكراني لمهاجمة المواقع الروسية المحصنة طوال ربيع عام 2023. رغم ذلك هناك فارق بين الحالتين, في الحالة الأوكرانية لم يكن يدرك زيلنيسكي تبعات انصياعه الكامل لرغبات النخب الغربية الحاكمة وما ستسببه من رد فعل روسي. بينما في حالة غرب إفريقيا, فالقادة الأفارقة ليسوا على استعداد للمخاطرة من أجل المصالح الفرنسية. فما أصبح مأساة في أوكرانيا قد يتحول إلى مهزلة في غرب إفريقيا, حيث قد تكون النتيجة النهائية هي اتفاق جميع الأطراف الإفريقية. في كلتا الحالتين, القاسم المشترك هو رغبة الطرف الفرنسي في تفادي التدخل العسكري المباشر بنفسه مستعينًا بدول أخرى لإتمام المهمة. وإذا كان سبب رغبتهم في الحرب بالوكالة في أوكرانيا هو الخوف من رد الفعل النووي الروسي, ففي إفريقيا, يتعلق بالأمر بغياب الرغبة والفرصة. بالإضافة لأن فرنسا مقتنعة بأن الأنظمة السياسية للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا القريبة منها مهتمة هي نفسها بالإطاحة بالسلطات العسكرية في النيجر. انقلاب النيجر في 26 يوليو هو الرابع في المنطقة في أقل من عامين (بعد مالي وبوركينا فاسو وغينيا), ومن الواضح أنه يحظى بدعم شريحة من السكان في أحد أفقر بلدان العالم. وفي بلدان الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الأخرى، لا تزال الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية بعيدة عن الاستقرار ولدى السلطات فيها أسباب عديدة تجعل من التدخل في النيجر أمرًا كارثيًّا من حيث النتائج. هناك ما يدعم الاعتقاد الفرنسي بأن القوات المشتركة لنيجيريا وبعض بلدان الإيكواس ستكون كافية لإعادة الرئيس المعتقل «بازوم» إلى السلطة. الشيء الوحيد الذي يعيق التحركات العسكرية هو غياب روح المغامرة: حتى الآن، يفضل القادة الأفارقة الانتظار والترقب، حتى ولو عبروا مرارًا عن رفضهم للانقلاب. تتحدث فرنسا عن الحل السلمي، بينما تطالب عمليًّا دول الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا باستخدام القوة ضد الجنرالات في النيجر. لا يمكن استبعاد وجود وعد بالدعم العسكري الفرنسي كذلك، حيث لا تزال هناك وحدات فرنسية عسكرية كبيرة في البلاد. لكن التدخل الغربي المباشر يظل أمرًا غير مرجح. تعلم فرنسا أن الدخول في صراع عسكري بشكل مباشر سينتهي بصورة سلبية, لذلك تصر فرنسا على أن تقوم بذلك دول الإيكواس في مقدمتها نيجريا. في المقابل, فالدول الإفريقية الحليفة ليست في عجلة من أمرها, بل وهناك من يتهمها بالتأخير العمدي للتحركات. ومع مرور الوقت يفقد التدخل العسكري الزخم المطلوب, خصوصًا بعد صدور الموقف الرسمي للاتحاد الإفريقي برفض التدخل العسكري في النيجر. وبعبارة أخرى، لا أحد في الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا حريص بشكل خاص على شن عملية عسكرية ضد النيجر. وإذا حدث مثل هذا التدخل، فإن السبب سيكون فشل محاولات هذه الدول في التفاوض مع المتمردين خلف ظهر فرنسا, وهو ما يجري الآن على قدم وساق حسب مصادر روسية. لا يزال الحل العسكري بعيدًا, فرغم الروابط القوية مع الغرب لا يزال قادة دول الإيكواس يدركون خطورة الصراعات العسكرية بين الدول في منطقتهم الغربية بالأخص, مع وجود تهديد حقيقي للحركات الإرهابية المسلحة. على عكس الأمر بالنسبة للسلطات في كييف, حيث كانت حسابات المصلحة مع النخب الحاكمة في الغرب أكثر أهمية من خسائر الحرب مع روسيا. ربما يكون للموقف الأمريكي دور في تأخر التدخل العسكري لدول الإيكواس أيضًا. يرى عدد من الخبراء والمراقبين أن الرؤى بين الولاياتالمتحدةوفرنسا تختلف بشأن التعامل مع الوضع في النيجر, كما اختلفت كذلك في ما يتعلق بالوضع في أوكرانيا, حيث حاولت فرنسا التسوية مع روسيا مرارًا في مواجهة الاندفاع الأمريكي لدعم الجهود العسكرية من الجانب الأوكراني, أما في النيجر, فمن الممكن رصد الكثير من المؤشرات التي تقول بأن الولاياتالمتحدة لديها طريقة أخرى في التعامل مع الانقلاب وسلطة العسكريين الجديدة في النيجر, حيث إن الموقف الفرنسي الداعي لتدخل عسكري من قِبل دول الإيكواس لا يقابله حماسه أمريكية مكافئة. فعلى سبيل المثال, لم تصف الأحاديث والبيانات الإعلامية الأمريكية ما حدث في النيجر بصفته انقلابا, حتى الآن تظل اللغة الأمريكية ناعمة تجاه القضية, كذلك على مستوى التحركات الدبلوماسية أوفدت واشنطن مبعوثة إلى النيجر، وهي وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية ونائبة وزير الخارجية بالوكالة فيكتوريا نولاند، وربما تكون المسئولة الغربية الوحيدة التي زارت النيجر منذ الانقلاب، كما أنها أرفع مسئولة أجنبية زارت النيجر منذ الانقلاب -بعد الرئيس التشادي- والتقت قادة المجلس العسكري الحاكم باستثناء الجنرال عبدالرحمن تياني. إضافة إلى ذلك، لم تخف تصريحات وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن توجه بلاده نحو الحل السلمي، إذ أكد في تصريحات للإعلاميين أن واشنطن تركز "بشدة على الدبلوماسية، لتحقيق النتائج التي نريد، أي عودة النظام الدستوري"، ولا يمكن أن تنحصر عودة النظام الدستوري في رجوع بازوم إلى السلطة، فعودته تعني في الخبرة الإفريقية منح الانقلابيين فرصة للتحول إلى فريق مدني حاكم عبر فترة انتقالية تنتهي بانتخابات على مقاس الحكام المسيطرين. كما تحدثت وسائل إعلام أمريكية وغربية عديدة عن العلاقة الوثيقة التي تربط واشنطن بعدد من كبار العسكريين في النيجر، ومنهم العميد موسى سالاو بارمو أحد أبرز مدبري الانقلاب، وتناولت بالنقاش والتحليل طبيعة العلاقة "المتميزة" التي تربطه بالمؤسسة العسكرية الأمريكية. تكلل كل ذلك بتصريح الولاياتالمتحدة بأن التدخل العسكري في النيجر "يظل مستبعدًا" إلى حد كبير. وهذا الموقف الأمريكي الناعم يرجع لأن المصالح الأمنية الأمريكية في النيجر تتجاوز في أهميتها مسألة الحفاظ على المسار الديمقراطي في البلاد, وإلى جانب ذلك، لا يخفى أيضًا أن سعي الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى احتواء الانقلابيين هو محاولة لإبعاد الروس عن آخر حصن أمريكي في أفريقيا، مع إبعاد شبح المواجهة من جديد بين الغرب وروسيا في إفريقيا. يتبين أن الولاياتالمتحدة ليست متحمسة للمطلب الفرنسي الداعم لتدخل دول الإيكواس عسكريًّا في النيجر, وهو ما يعني أن الولاياتالمتحدة قد اختارت بالفعل التخلي عن مصالح حليفتها الفرنسية, وهو ما حدث سابقًا في العديد من الوقائع خلال الأعوام الماضية في مناطق متنوعة حول العالم, وأبرز هذه الوقائع تمثل في صفقة أوكوس مع استراليا, التي تدخلت الولاياتالمتحدة فيها لتلغي صفقة غواصات متفق عليها بين أسترالياوفرنسا وتستبدلها بصفقة أمريكية, وهو ما اعتبرته فرنسا آنذاك طعنة في الظهر من الحليف الأمريكي. يبدو أن الولاياتالمتحدة تكرر هذا النهج مرة أخرى في ملف النيجر, حيث إن مسألة إبعاد النفوذ الروسي عن غرب إفريقيا يعتبر أولوية تكتسب أهمية تتفوق على الحفاظ على المصالح الفرنسية, وبذلك يكون الموقف الهادئ من الانقلاب في النيجر هو تكتيك أمريكي لضمان عدم التقارب بين السلطة الجديدة والمنافس الروسي, حتى لو حدث ذلك على حساب المصالح والرؤى الفرنسية. من الواضح أن تراجع نفوذ ومكانة فرنسا في غرب إفريقيا أصبح أمرًا واقعًا بالنسبة للولايات المتحدة, وفي ظل القلق الأمريكي من التدخل الروسي والصيني لسد الفراغ, تسقط المصالح الفرنسية من الحسابات الأمريكية.