ارتكزت إدارة ترامب السابقة في موقفها تجاه الصين على مفهوم "فك الارتباط", لكن يبدو أن هناك مفهومًا جديدًا اعتمدته إدارة بايدن تجاه الصين, وهو مفهوم "الحد من المخاطر". وقد أعلن الاتحاد الأوروبي بالفعل أن نهجه تجاه الصين سوف يقوم على مقاربة تعتمد على الحد من المخاطر وتقليل الخسائر, وهو ما أعربت عنه خطابات الدول المشاركة باجتماع السبعة الكبار الأخير. ماذا يعني مفهوم الحد من المخاطر تحديدًا؟ بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الولاياتالمتحدةوالصين في عام 1979، شرعت الدولتان نحو تعميق وزيادة الترابط الاقتصادي. استفادت الصين بشكل كبير من هذه العلاقة، حيث ساعدت البلاد على توسيع وتعميق مشاركتها الدبلوماسية والاقتصادية مع بقية العالم. ومع نمو القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، نمت الخلافات مع الولاياتالمتحدة وانعكست على النظام الدولي بشكل ملحوظ. لم يأت صعود الصين على حساب النفوذ العالمي للولايات المتحدة فحسب، بل جاء أيضًا على حساب الصناعات المحلية الأمريكية التي تضائلت مع الترابط الاقتصادي مع الصين منذ أربعة عقود. بحلول الوقت الذي تولى فيه دونالد ترامب مقاليد السلطة في الولاياتالمتحدة، أصبح التعامل مع التحدي التقني والاقتصادي القادم من الصين مسألة ملحة من وجهة نظره. ركزت إدارة ترامب على مكافحة الخلل في الميزان التجاري الهائل لصالح الصين. كما سعت إدارة ترامب نحو إبقاء قطاع التكنولوجيا المتفوقة في الولاياتالمتحدة بعيدًا عن متناول الطموح التكنولوجي الصيني. في سلسلة من القرارات، أضاف ترامب مزيد التعريفات الجمركية على الواردات الصينية من خلال فرض رسوم انتقامية على السلع الصينية. بدأت "الحرب التجارية" بين الولاياتالمتحدةوالصين، ووُضعت العلاقات الثنائية على مسار "فك الارتباط" من وجهة النظر الأمريكية. توافق الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري على هذه السياسة حينها رغم المناخ السياسي المُستقطَب بينهما. لذلك، استمرت إدارة بايدن في العمل على فك الارتباط تجاه الصين. ومع ذلك، بمرور الوقت، أضافت إدارة بايدن ممارساتها الخاصة إلى سياسة الصين الموروثة من ترامب. في الآونة الأخيرة، تغيرت التسمية للإستراتيجية الأمريكية تجاه الصين من "فك الارتباط" إلى "الحد من المخاطر". وفقًا لمستشار الأمن القومي الأمريكي "جاك سوليفان"، "إن الحد من المخاطر يعني بشكل أساسي وجود سلاسل إمداد مرنة وفعالة تضمن عدم تعرضنا لإكراه أي دولة أخرى". في حين أن فك الارتباط يمثل انعكاسًا في نهاية المطاف للمشروع الذي استمر أربعة عقود لتداخل الاقتصادين، فإن الحد من المخاطر يُهدف إلى الحد من تأثير الارتباط بين الاقتصادين فقط في المناطق التي يضعف فيها الأمن القومي والكفاءة الصناعية للولايات المتحدة. تم التعبير عن هذا التحول في المفهوم من قِبل إدارة بايدن في خطابين بارزين — الأول ألقته وزيرة الخزانة "جانيت يلين" حول "العلاقة الاقتصادية بين الولاياتالمتحدةوالصين" في كلية "جونز هوبكنز" للدراسات الدولية المتقدمة في 20 أبريل، تلاها خطاب "جاك سوليفان "حول "تجديد القيادة الاقتصادية الأمريكية" في معهد بروكينغز في 27 أبريل. تم إدراج التشريعات الجديدة في الولاياتالمتحدة مثل قانون البنية التحتية وقانون الشرائح الإلكترونية والعلوم وكذلك قانون خفض التضخم في إطار هذا النهج الجديد. من المفترض أيضًا أن تعكس المبادرات الجيواقتصادية للولايات المتحدة, مثل الشراكة من أجل البنية التحتية والاستثمار العالميين بالإضافة إلى الإطار الاقتصادي للرخاء بين المحيطين الهندي والهادئ, روح مفهوم الحد من المخاطر. لماذا الحد من المخاطر؟ من أجل فهم الأساس المنطقي وراء تحول الولاياتالمتحدة من فك الارتباط إلى الحد من المخاطر، من المهم النظر لتوقيت هذا التحول. تم الإعلان عن تغيير السياسة في أعقاب العديد من الأحداث ذات الأهمية الجيوسياسية الكبيرة. لقد خرج العالم للتو من حقبة الوباء بعد ثلاث سنوات مدمرة, ويأمل الاقتصاد العالمي في حدوث انتعاشة اقتصادية. بلغ التنافس بين الولاياتالمتحدةوالصين ذروته في الأشهر القليلة الماضية — من تصاعد التوترات عبر مضيق تايوان إلى حادثة منطاد التجسس الحادة بين البلدين. كما شهدت الصين بدء شي جين بينغ عقده الثاني من حكم الصين في فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة كأمين عام للحزب الشيوعي الصيني، ورئيس اللجنة المركزية ورئيس جمهورية الصين الشعبية، منذ فجر عصر الإصلاح والانفتاح. في موازاة ذلك، مر أكثر من عام منذ أن بدأت روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، مع استمرار الصراع دون أي نهاية في الأفق. وبعد أن بدأ شي فترة رئاسته الثالثة على التوالي، قام بأول زيارة خارجية له إلى روسيا حيث اقترح خطة سلام. كما قام، في فترته رئاسته الثالثة، بترجيح "دبلوماسية صنع السلام" إلى غرب آسيا، وحقق الكثير عبر تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية المتوترة. كل هذه التطورات استلزمت من الولاياتالمتحدة إعادة تقييم موقفها تجاه الصين. في مثل هذه الحالة، يبدو أن النظر للعلاقات بين الولاياتالمتحدةوالصين على أنها حرب باردة جديدة, ولعبة صفرية بين متنافسين, هو أمر محفوف بالمخاطر بالنسبة للولايات المتحدة. لعب الصراع الروسي الأوكراني دورًا محوريًا في تمكين تحول سياسة الولاياتالمتحدة تجاه الصين. عملت إدارة بايدن على طمأنة حلفائها الأوروبيين على عكس سابقتها. في الوقت الذي كانت فيه الصين تدعم روسيا في معركة أوكرانيا ضد الغرب، كان الاتحاد الأوروبي يتطلع إلى جذب الصين من أجل إقناعها بالتوقف عن دعم روسيا عن الالتفاف على العقوبات الغربية. في هذا السياق، قد تكون مقاربة الحد من المخاطر هي أحد أشكال التحفيز للكتلة الأوروبية في توطيد دورها في المواجهة مع الصين. لذلك ليس من المستغرب أن يكون التعبير الأمريكي الأخير مستندًا على خطاب رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فون دير لاين" حول "العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين" أمام معهد مركاتور للدراسات الصينية ومركز السياسة الأوروبية في 30 مارس. في كلمتها، شددت السيدة "فون دير لين" على أن إستراتيجية الاتحاد الأوروبي تجاه الصين ستستند إلى الحد من المخاطر. كانت هذه مقدمة لزيارتها للصين في أبريل، إلى جانب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. في الواقع، كانت سياسات الصين في الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي تشهد تقاربًا كبيرًا في التطورات الأخيرة, ربما أدت فقط إلى إجماع عبر المحيط الأطلسي على تقليل حدة التنافس مع الصين. هل يؤثر الحد من المخاطر على مستوى النزاع الأمريكي الصيني؟ إن جهود الولاياتالمتحدة لإبقاء حلفائها أقرب إليها في تنافسها الجيوسياسي ضد الصين من خلال تبني طريق الحد من المخاطر قد حققت بالفعل تقاربًا بين الدول الحليفة في اليابان أثناء قمة مجموعة ال 7. وأعلن القادة في القمة أنهم سينسقون "نهجهم تجاه المرونة الاقتصادية والأمن الاقتصادي الذي يقوم على تنويع وتعميق الشراكات والحد من المخاطر وليس "فك الارتباط". وقد أعربت الصين عن شكوكها في نهج الغرب تحت عنوان الحد من المخاطر, واعتبرتها تسمية محتلفة لفك الارتباط. علاوة على ذلك، أعربت الصين عن عدم موافقتها على تصوير الصين على أنها الفاعل المسؤول عن الاضطرابات الجيوسياسية. وفقًا للصين، فإن المصدر الحقيقي لاضطراب الدولي هو الولاياتالمتحدة، التي تعمل على تثبيت حالة عدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم من خلال استمرارها في التدخلات السياسية والعسكرية وتكريس عقلية الحرب الباردة. إن التركيز المستمر على الحد من المخاطر لتنويع وتوسيع سلاسل التوريد بعيدًا عن الصين يدل على أن روح فك الارتباط الموروثة عن عهد ترامب لا تزال مستمرة، مع وجود بعض التغييرات الطفيفة, ربما يُفسر الانتقال من المفهوم الأولي إلى الثاني كتراجع أمريكي في مواجهة الصين, لكن يُعتقد أن التراجع الأمريكي عن فك الارتباط إلى الحد من المخاطر يستهدف جذب الأوروبيون إلى الولاياتالمتحدة عبر سياسة أكثر رشدًا وأقل عنفًا تجاه الصين, يقتنع بها الأوروبيون وربما يتحمسون لتنفيذها.