بداية يجب أن نذكر بأن القائد الجديد للعملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا الجنرال، سيرجى سورافيكين، كان قد أعلن بعد توليه المنصب، أن الموقف فى خيرسون معقد، واحتمال اتخاذ "قرارات ليست بسيطة" غير مستبعد . وأضاف الجنرال أن الموقف فى منطقة العمليات أستقر، وان إمكانيات المجموعات العسكرية الروسية قد زادت على حساب القوات التى انضمت لمسرح العمليات من الأفراد المستدعين والمتطوعين للخدمة فى إطار حالة التعبئة الجزئية التى أعلن عنها الرئيس الروسى فى شهر سبتمبر الماضى. وكان كيريل ستريموسوف، نائب رئيس الإدارة التابعة لروسيا فى مقاطعة خيرسون، قد أعلن أن محاولات الجيش الأوكرانى دخول منطقة خيرسون فى إطار هجومه على المقاطعة لم تنجح (ستريموسوف لقى مصرعه إثر حادث سير يوم 9 نوفمبر الجارى) وكان المتوقع أن تسير الأمور بين كر وفر دون تحقيق نتيجة إيجابية ملحوظة للأوكران، رغم أنهم تقريباً استطاعوا السيطرة على كل المدن الصغيرة التابعة لخيرسون خلال فترة قصيرة، والسيطرة على خيرسون كانت مسألة وقت. والآن وعلى أرض الواقع وأمام عدسات التلفزة، أعطى وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو أوامره لقائد العملية العسكرية الجنرال سيرجى سورافيكين بالانسحاب من خيرسون من الشاطئ الأيمن لنهر الدنيبر، بعد تقرير عملياتى تقدم به الأخير أمام عدسات التليفزيون، إلى الضفة اليسرى بما فى ذلك مدينة خيرسون ذاتها. فقد بدأت الأنباء تتواتر فى صباح 9 نوفمبر الجارى عن قائد القوات فى أوكرانيا الجنرال سورافيكين تشير إلى أنه لا يمكن إيصال الإمدادات للقوات فى خيرسون. إخلاء المدنيين وأشار إلى أن روسيا فعلت كل ما تستطيع لتأمين عملية إخلاء المدنيين من المدينة، لأن القوات الأوكرانية تقصف سد كاخوفكا مما يهدد بإغراق مساحات واسعة من الأرض. وأشار الجنرال إنه من الأفضل تنظيم عملية الدفاع من الجانب الأيسر من النهر مستخدمين النهر كمانع طبيعى للدفاع، وأن الإبقاء على القوات على الجانب الأيمن من النهر عملية لا هدف منها وغير مجدية. بعد كلام الجنرال قائد العملية أصدر وزير الدفاع أوامره بالانسحاب من خيرسون. أما لماذا حدث ذلك، وبالعودة إلى آراء الخبراء العسكريين، فقد كتب العديد من العسكريين عن مخاطر توجيه ضربات لمحطة كاخوفكا الكهرومائية (السد) مما سيؤدى إلى إغراق مساحات واسعة من الأرض، ومن ثم فإن إخراج القوات من الضفة المرتفعة من النهر إلى الضفة السفلى قد يساعد على تجنب القوات لعملية الغرق فى حال تدمير السد لكنه سيعطى غلبة للقوات الأوكرانية، وننتقل الآن إلى الإعلان الرسمى بالانسحاب، وفرضيات أسبابه غير المقبولة من الجميع من صقور العملية العسكرية. وهى 1 القصور فى عملية الإمداد وكما قال بعض الخبراء إنها بدأت تظهر مع بداية الصيف، لكن لأسباب غير مفهومة لم يتم إصلاح الخلل فى عمليات دعم القوات، وهذا مرتبط بأنه منذ بداية العملية العسكرية لم تستطع القوات السيطرة على مدينة نيكولايف، ولكن القوات تسرعت وتعجلت فى الاستيلاء على مدينة خيرسون وهى مدينة صعبة من ناحية الجغرافيا، وربما العجلة كانت بسبب أنها مركز أو عاصمة إقليم ومدينة كبيرة وهذا من شأنه أن يرفع معنويات القوات، وتعتبر خيرسون منطقة معقدة من ناحية ضمان إمداد القوات بالذخيرة بانتظام ومن ناحية أخرى كونها مركز دعم، لهذا السبب اتخذ الجنرال سورافيكين القرار بسحب القوات من خيرسون وإنقاذ آلاف الجنود الموجودين تقريباً محاصرين فى الأرض التى يسيطر عليها الجيش الأوكرانى ومن خلفهم النهر، بجسوره شبه المدمرة، والمنقطعين عن أى مصدر للتموين والإمداد، وفى حالة محاولة فك حصار هذه القوات فإن الخسائر ستكون كبيرة جداً. وهناك مشكلة كانت موجودة فى القوات الروسية المسيطرة على خيرسون وهى أن هذه القوات لم تحصل على إجازات منذ فبراير من العام الجارى أى منذ بدء العملية العسكرية، كما أن تعويض خسائر هذه القوات من الأفراد تم تعويضها فقط بعد بدء عملية التعبئة الجزئية التى أعلن عنها الرئيس بوتين فى سبتمبر الماضى، ناهيك عن أن الأفراد المستدعين لم يكونوا على نفس مستوى القوات النظامية، التى سيطرت على المدينة منذ البداية، من ناحية التدريب والمهارة، على أى حال الوقت غير مناسب للمحاسبة، خاصة وأن قائد العملية لم يكمل بعد شهر فى منصبه الجديد. محاولات للتفاوض 2 سبب الانسحاب ربما يكون ما أعلنته ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم الخارجية الروسية، من أن روسيا تريد التفاوض، حيث قالت فى تصريح رسمى "إن روسيا على استعداد للتفاوض مع أوكرانيا مع الأخذ فى الاعتبار الواقع الموجود فى اللحظة الحالية"، ما هذا الواقع الذى أجبر القوات الروسية على الانسحاب من الجانب الأيمن لنهر الدنيبر، أم يمكن أن يكون الحديث قد دار عن اتفاق مع الولاياتالمتحدة فى إطار اتفاق "مينسك. اتصالات سرية 3″ هذا غير مستبعد خاصة وأن أنباء تواترت فى الفترة الأخيرة عن وجود اتصالات سرية بين الكرملين والبيت الأبيض وإن لم يحدد من أذاع هذا النبأ مستوى هذه الاتصالات. على أى حال خيرسون مدينة هامة للغرب فهناك الحبوب والموانئ القريبة لتصديرها، فكما هو معروف لو سيطرت روسيا على خيرسون ونيكولايف وأوديسا فإنها سوف تتحكم فى أسواق المواد الغذائية فى العالم، وواشنطن من جانبها لا تتصور تحكم روسيا فى سوق الغذاء العالمى فالأمر هنا متعلق بالحياة والموت وليس نفط وغاز، ناهيك عن مصالح الحلفاء الأوروبيين، وهى الأهم بالنسبة لواشنطن، التى قد تكون هذه الفرضية صحيحة على خلفية نتائج انتخابات الكونجرس الأخيرة، حيث أن أيدى الديموقراطيين والرئيس بايدن مطلقة كما كانت من قبل. لكن الذى لا شك فيه أن هناك ضغطا غربيا على الرئيس الأوكرانى زيلينسكى، فكما لاحظ مراقبون فى الفترة الأخيرة مرونة إلى حد ما فى موقف الرئيس الأوكرانى فيما يتعلق بمطالبه من روسيا ولم يعد يتحدث عن عدم إمكانية الحديث مع روسيا، أو الرئيس بوتين وإن كان لم يذكره فى أى حديث عن التفاوض. وواضح هنا تأثير زيارة مستشار الأمن القومى الأمريكى جيك ساليفان لكييف، وكما قيل أنه تحدث أثناء الزيارة عن فكرة ضرورة التسوية الدبلوماسية للنزاع وفى نفس الوقت أمد على أن عناصر التأثير الأوكرانى على أى مفاوضات ستتم تقويتها، لن تضعف إذا أعربت عن رغبتها فى التفاوض. أوروبا كذلك بدأت تضغط على أوكرانيا حيث رفضت تقديم دفعة مالية كان متفقا عليها من قبل. وهذا بلا شك نجاح نسبى لروسيا التى كانت تراهن منذ البداية على قوة تحمل الغرب. لكن فكرة الاتفاق على الانسحاب من وراء ظهر كييف ليس لها مؤيدون كثيرون. خاصة وأن الولاياتالمتحدة كانت قد أعلنت فى بداية الأزمة أنها لن تفعل شيئا يتعلق بكييف دونها. خطط عسكرية 4 الخروج من الشاطئ الأعلى أو الضفة الأعلى من نهر الدنيبر تصرف غريب إلى حد ما، مما سيخلق ظروفا جيدة لهجوم الخصم، إلا إذا كان الانسحاب الهدف منه توجيه ضربة قوية للقوات الأوكرانية بعد ما وصفه المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية بأنه "مناورة بالقوات". لا أحد يدرى وأنا لا أتحمل مسئولية هكذا فرضية، رغم قول الكثيرين من المعلقين الروس بأن روسيا سوف تعود لخيرسون من جديد فهى أرض روسية وفقاً للاستفتاء الأخير، كما أن ترك أرض روسيا مخالفة دستورية وفق الدستور الروسى، فهل ستتم حل هذه المعضلة بتخريجة دستورية؟ سنرى، أم أن الرئيس الروسى سيصلح الأوضاع ويعيدها إلى ماكنت عليه؟ مأزق دستورى لا شك، لكن فى زحمة الأحداث لا يلتفت له أحد، لكن إذا حدث فعل مشابه فى المستقبل فقد تتفاقم الأمور، دستورياً. الرئيس التركى إردوجان قال إن الانسحاب الروسى من خيرسون عمل إيجابي، وإن استبعد وقفا قريبا للحرب أو التفاوض، أما وزير الدفاع الأوكرانى ريزنيكوف، فقد أشار إلى أن القوات الروسية أمامها على الأقل أسبوع حتى تتم انسحابها، مشيراً إلى أن تعدادها يقترب من 40 ألف جندى، وتشير أنباء إلى أن القوات الأوكرانية مازالت تقوم بقصف للقوات الروسية، التى أشارت إلى الدقة والتنظيم الجيدين لعملية الانسحاب، من الملاحظ أن أوكرانيا لا تحتفل كما يجب بالسيطرة على خيرسون، ومن الواضح أن هناك صفقة ما تحت الطاولة تسعى لتهدئة الأوضاع، التى كما توقع وزير الدفاع الأوكرانى من المتوقع أن تكون هادئة خلال فترة الشتاء، وإن كانت روسيا ستسعى لتجميع قواتها، التى أنهكت على مدى 9 أشهر، من جديد وربما تشن هجوما لاستعادة خيرسون وبعض المناطق الأخرى، ما لم يحدث تفاوض. رد فعل سلبى ويتوقع المراقبون أن يكون لانسحاب القوات الروسية من خيرسون رد فعل سلبى فى الداخل الروسى، خاصة بعد أن لفتت التعبئة الجزئية الأنظار للعملية العسكرية وبدأت أغلبية من الشعب الروسى فى متابعتها، ومما لا شك فيه سيقوم الغرب بتسخين الرأى العام الروسى ضد العملية من خلال استطلاعات الرأى ووسائل الإعلام الغربية، وسيركز الإعلام الغربى على عدم قدرة الجيش أو الهزيمة القادمة، وفى حالة عدم تحقيق الجيش الروسى لنجاحات على مستوى مدن كبيرة، فإن عدم الرضى سيكون سيد الموقف بين المواطنين الروس، وهو ما يعتبره البعض أسوأ من العقوبات. فى واقع الأمر ومهما كانت الإخفاقات فإن على الجانب الروسى وخاصة الرأي العام داخل روسيا، تقبل الأمر مهما كان فمازالت روسيا تسيطر على مساحات ليست قليلة، وإن كانت ليست فى أهمية خيرسون استراتيجياً والتي فى حال البقاء فيها والسيطرة على أوديسا تكون تقريباً أغلقت البحر الأسود أمام أوكرانيا، لكن إنها الحرب كر وفر، ولا أحد يدرى كيف سيكون الموقف بعد أسبوع أو اثنين.