قضية للمناقشة العصف والريحان فريدة النقاش قليلة هي المذكرات التي تجبر قارئها علي أن يواصل القراءة بشغف حتي النهاية. ومذكرات الزميل والصديق "محمد سلماوي" العصف والريحان" هي من هذا النوع. وأول ما يلفت النظر صدقها, ثم العنوان الذي اختاره لها "سلماوي" مقتبسا من "سورة الرحمن" التي قال عنها "محمود درويش" "ستأخذك سورة الرحمن إلي الإيمان المصحوب بالطرب, فتحب الله, وتشفي من قلق السؤال الأول: من خلق الله؟ وليست "العصف والريحان" مجرد مذكرات شخصية من ذلك النوع الذي يلجأ إليه الكتاب حين يداهمهم العمر, ولكنها أكثر من ذلك تجربة جيل ومرحلة تاريخية تواترت فيها الاحداث وتصارعت القوي, وتوقف "سلماوي" في بدايتها عند بشاعة تنظيم الاخوان المسلمين والطريقة التي قتل بها القمص مكسيموس جرجس, الذي وضع الجناة السكين علي رقبته وطلبوا منه أن ينطق الشهادتين, ولما رفض ذبحوه, وقدموا بذلك الصورة الحقيقية لبشاعة التطرف الديني, ثم ذلك الركود بل الجمود الذي خلقه حكم "حسني مبارك" في حياة البلاد السياسية التي اوقفت التقدم فتراجعت كل مناحي الحياة وخدماتها, وهو ما أدي بعد ذلك الي الانفجار الذي وقع يوم 25 يناير 2011. كنت عندما بدأت قراءة الكتاب اتساءل : لماذا لم يتوقف الباحثون والمؤرخون بما يكفي امام ممارسات جماعة الاخوان- التي لفظها الشعب المصري بعد أن جرب حكمها لمدة عام كان عاما بائسا لا حياة فيه ولا انجاز, أقول لماذا لم يتوقف الباحثون بما يكفي امامها خاصة بعد أن اكتشف الشعب المصري حقيقتهم وتكالبهم علي المغانم الدنيوية أي علي الضد تماما من دعاوي الزهد والتعفف. وكان متابعون كثر للحياة السياسية في بلادنا- وأنا منهم- قد تمنوا ذات يوم أن يصل الاخوان الي سدة الحكم, لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي ستكشف هزال ادعاءاتهم, فضلا عن عدم كفاءتهم امام الشعب المصري, وهو ما حدث فعلا, اذ كان العام الذي حكموا فيه البلاد قد بين ذلك بكل الوضوح, وتبين فشلهم السياسي للجميع, وأولهم الذين طالما قالوا: لماذا لا نجربهم. وسرعان ما انهار حكمهم. وكان أن تغيرت مصر بعد انقضاء عهد "السادات". انتمي إلي الجيل الذي انطلق "سلماوي" من موقعه, وكتب مذكراته بادئا بالوقت الذي رفعت فيه الدولة يدها عن الثقافة, اذ لم تعد تقدر الدور الفريد الذي تقوم به القوي الناعمة في بناء مصر ودعم صورتها في الداخل والخارج. وبما انني كنت شاهدة علي هذا التحول, وكتبت محذرة من نتائجه السيئة على مجمل تطور البلاد لا في الثقافة وحدها, وكان هذا هو موقف غالبية المثقفين وقد همشتهم السياسة, بل اقول اصبح هناك عداء مستتر ضد المثقفين, والصحفيون علي رأسهم, وقال احد شيوخ الصحفيين "جلال الدين الحمامصي" "إن الطريق الي الصحافة يمر عبر السجن", وبالفعل نادرا ما نجد صحفيا او صحفية من اصحاب المواقف والرؤي الواضحة دون أن يمر بتجربة السجن, وهناك عدد من الكتب المهمة لصحفيين وصحفيات عرفوا السجون والمعتقلات, ناهيك عن الفصل من العمل والمنع من الكتابة, ولذلك عرفت مصر ما سبق ان وصفته بالخروج الكبير بعد أن اضطر عشرات الصحفيين والصحفيات إلى البحث عن فرص عمل خارج البلاد, وكما اعتدنا ان نقول "رب ضارة نافعة" فقد استطاع هؤلاء المغضوب عليهم المطرودون من بلادهم ان يؤسسوا صحافة مزدهرة في البلدان العربية التي لاذوا بها، ولعبت هذه الصحافة في أوقات الازمات السياسية الكبري بين بعض البلدان العربية دور رجل المطافئ. لا تستطيع كاتبة أو كاتب – مهما كانت معتقداته أن يفلت من سحر القرآن الكريم, وهو ما جعل "سلماوي" متوقفا في نهاية كتابه أمام سورة الرحمن" الرحمن علم القرآن, خلق الانسان علمه البيان". وهي السورة التي قال عنها محمود درويش "ستأخذك سورة الرحمن إلي الايمان المصحوب بالطرب, فتحب الله, وتشفي من قلق السؤال الأول: من خلق الله". ولا أستطيع أن اختتم هذه الكلمات دون أن اتساءل: اين يا تري ذهبت مذكرات "ممدوح البلتاجي" التي تحدث عنها الزميل "سلماوي" وأسأل هذا السؤال لأن لدينا نقصا واضحا في التوثيق الاداري رغم اهميته للباحثين والمؤرخين. اذ يبدو لي انه ليس هناك ما يكفي من اهتمام الباحثين والمؤرخين بالمذكرات كمصدر للمعلومات, ولا تزال هذه المذكرات في غالبيتها كنوزا مهجورة تحتاج لمؤرخين يكشفون عن ثرائها, ويساعدون القراء علي الاستمتاع الفكري بها, وفوق ذلك كله يقدمونها لجمهور القراء بما يليق بها. يختتم "سلماوي" مذكراته بكلمات شاعر بالغ الحساسية, يتسم شعره بحزن شفيف, ورؤية ذات طابع قدري ايماني عظيم متعال علي ما يمكن ان نسميه مباهج الدنيا إذ: "كل من عليها فان, ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام, فبأي آلا ربكما تكذبان" صدق الله العظيم فريدة النقاش