*عيد عبدالحليم إذا كانت الأمم تقاس بأيامها المجيدة فإن كل لحظة من حياة نجيب محفوظ كانت تساوى طاقة نور للوطن. وكل لحظة تقع عين القارئ فيها على عالمه الروائى تعد تكريما لنا قبل أن تكون تكريما له. وقد كان "محفوظ " من هذا النوع الذى أهلته الظروف لأن يقف فى منطقة إبداعية يمكن أن أسميها ب"فلسفة الوجود ودراما الشخصية" حيث تتحول الذات المبدعة إلى مرآة عاكسة لبنية المجتمع تغوص فى تفاصيله المكانية والزمانية لتعيد صياغة أبعاده الدرامية عبر لغة تنتج من الأبعاد الشعبية لهذا المجتمع، فتصبح لغة السرد فعلا موازيا للغة الشارع، ومن هنا ينفتح فضاء الدلالة، ومن هنا تجيء رحابة المعنى. "محفوظ" ليس مجرد روائى أضاف إلى بنية السرد العربى ونقل هذا الفن الحكائى من مرحلة الرواية التاريخية التى كتبها أمثال "جورجى زيدان" و"محمد المويلحى" وغيرهما إلى الرواية الواقعية فقط، بل هو ابن حقيقى لتراث الشعب المصرى وحضارته العريقة، استطاع فى إبداعاته أن يعبر عن كل القيم الأصيلة والجوهرية فى الشخصية المصرية. هو "رجل الساعة" على حد تعبير صديقه الراحل "محمد عفيفى" الذى واجه الزمن بتقلباته العاصفة ب "نظام زمانى ومكانى صارم" حسب لكل لحظة قيمتها، عرف متى يكتب ومتى يتوقف، ومتى يتأمل. يقول "عفيفى": ( كان على الدوام يثير غيظى، وكان فى بعض الأحيان يثير رثائى، ولكنه لم يعد فى النهاية يثير شيئا سوى حسدى! إذ رأيت مؤلفات الرجل ترتفع وترتفع حتى توشك أن تنطح السقف، فأدركت قيمة النظام والمثابرة بالنسبة للرجل الذى يريد أن يكون كاتبا كبيرا ) . وأعتقد ان "نجيب ومحفوظ" تميز بصفتين أساستين تمكنتا من شخصيته وهما: الأولى: أنه صادق فيما يكتب، ولأنه لا يكتب إلا عما يعرف فجاءت كتابته عن الحارة المصرية مستوعبة لعناصرها التاريخية والاجتماعية، تماما مثلما فعل "ماركيز" مع حوارى وشوارع أمريكا الجنوبية . أما الصفة الثانية: فهى ذات بعد إنسانى تتعلق بذاته وهى كونه أديبا بلا خصومات، ربما جاءت الخصومة من البعض، ولكنه لم يحمل ضغينة لأحد، بل كرس كل همه وجهده للكتابة والإبداع فقط فلم نره يشغل نفسه بالكتابة ضد هذا أو ذاك .. وتلك طبيعة الكبار. وهذا ما يقول عنه الكاتب الكبير رجاء النقاش: ( لقد كان التعامل مع نجيب محفوظ يكشف لى دائما عن فضائله الكثيرة ومنها الأمانة والصدق مع النفس ومع الآخرين، والتواضع والتسامح وسعة الصدر وعدم اللهفة على أى مكسب من أى نوع والرفض الكامل لأن يربط بين ما يكتبه وعملية النشر .. أى أنه منذ بدايته لا يكتب بناء على طلب من الخارج بل يكتب ما يحس به وما يعبر عن تجربته فإن لم يجد, توقف عن الكتابة). وأرى أن هذه الصفات التى تلازمت وتوافقت جعلت من شخصية "محفوظ " شخصية ناجحة اجتماعيا وثقافيا، جعلت منه "هرما" على حد تعبير"يحيى حقى" وهذا ما يؤكده " نجيب محفوظ " فى حواراته مع عبد العال الحمامصى عام 1982 حيث يقول :- (أفضل ما يستفيد منه الكاتب بالطبع هى التجارب التى عايشها بنفسه .. لأنها تتيح له ميزة الصدق مع نفسه ومع تجربته الفنية .. ولكن الكاتب لا يمكن أن يقتصر عالمه الفنى على مجرد ما عاشه هو .. إذا لابد أن يثرى رؤيته بتجارب الآخرين ومعايشتها .. وبالخيال .. ولكنه الخيال الذى يعتمد على شيء من الحقيقة .. وإلا من الأفضل أن يتجنب الكاتب فى موضوع يجهله.. لهذا أفضل ألا أكتب عن الحرب مثلا .. عن أن أكتب عنها من مجرد الخيال .. وما قلته هنا يمكن أن ينطبق على أعمالى الروائية) . لم تكن علاقة نجيب محفوظ بجائزة "نوبل" هى عام فوزه بها عام 1988 بل سبقتها إرهاصات مصرية رشحت الرجل للحصول على الجائزة وإن جاءت فى شكل مقالات نقدية وتنبوءات فنية كما حدث مع عميد الأدب العربى د. طه حسين حين قرأ له رواية "بين القصرين" فأكد أن محفوظ أقدر الأدباء العرب للحصول على الجائزة، وبعد نبوءة طه حسين بما يقرب من ثلاثين عاما، وتحديدا فى عام 1982 ترددت الشائعات عن ترشيح أديبنا للجائزة، وحوارات "محفوظ " فى هذه السنة تدل على ذلك، رغم أنه نفى علمه بهذا الأمر، فنراه يقول فى أحد حواراته لمجلة "أكتوبر" فى يوليو 1982: "إن الخبر لا أساس له من الصحة، ولقد أخبرنى أستاذنا توفيق الحكيم أمام عدم علمى بأى شيء يتعلق بهذا الترشيح، بأنه عندما يرشح أديب لجائزة نوبل، فإنهم يطلبون من سفارة بلده فى عاصمة السويد أن تخطره بذلك وأن تطلب منه أن يقدم بعض المعلومات عن شخصه وإنتاجه، وأنا لم يتصل بى أحد فى هذا الشأن لا من سفارتنا ولا من جهة أخرى .. وليس من المعقول أن يرشح أديب لجائزة مثل هذه بغير علمه وبهذا يمكن القول مرة أخرى بأن الخبر الذى قرأناه كان غير صحيح". وأرجع "محفوظ" فى هذا الحوار مع الكاتب عبدالعال الحمامصى إلى أن السبب يرجع فى تأخر حصول أحد الأدباء العرب على مثل هذه الجائزة العالمية يرجع إلى ضعف حركة الترجمة فى الوطن العربى، رغم وجود مؤسسات كبرى للنشر إلا أنها- للأسف الشديد –لم تقم بدورها المنوط بها أمثال هيئة الكتاب، رغم وجود قامات إبداعية كبرى كتوفيق الحكيم ويحيى حقى ويوسف إدريس . وظل "محفوظ" على قوائم الترشيح أو قريبا منها لسنوات طويلة هو و"الحكيم" و"يوسف إدريس" الذى كان الأقرب للحصول عليها عام 1985 لولا أن اللجنة اختارت الروائى الفرنسى المغمور "كلود سيمون" بحجة أن الجائزة لم يحصل عليها فرنسى منذ عشرين عاما بعد رفض "جون بول سارتر" لها عام 1964، وجاء هذا فى لعبة سياسية واضحة المعالم، رغم أن كل المؤشرات – فى ذلك الوقت – كانت تؤكد أن "إدريس" هو الأقدر على الحصول عليها، ولكن أثبتت التجربة أن القيمة الادبية ليست هى الفيصل فى نمط الاختيار . وللإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نشير إلى أن بعض المستشرقين الأجانب – كان – منهم بعض المنصفين الذين اهتموا بترجمة النذر اليسير من الأدب العربى، فترجمت بعض أعمال يحيى حقى ويوسف إدريس، أما توفيق الحكيم فقد اهتم بترجمة كتبه بنفسه وعرفت مؤلفاته طريقها للقارئ الغربى منذ العشرينيات من القرن الماضى، بالإضافة إلى ترجمة بعض أعماله على يد هؤلاء المستشرقين الذين ترجموها بغرض الدرس الأكاديمى فى الجامعات الأوربية . ومن هؤلاء الذين اهتموا بالرواية العربية وبأدب نجيب محفوظ – تحديدا – المستشرق "شيفتيل" رئيس قسم الدراسات العربية بجامعة ليذر البريطانية، والذى كان ضلعا أساسيا فى ترشيحه للجائزة على اعتبار أنه أول أديب عربى من الممكن أن يحصل عليها. وبالفعل كتب "شيفتيل" خطابا إلى الأكاديمية السويدية فى 10 فبراير 1988 يرشح فيها "محفوظ"، وبعدها بأسبوع أرسل "شيفتيل" خطابا لمحفوظ فى يوم 17 فبراير 1988 يخبره فيه بنبأ الترشيح .. وهذا نصه: الأستاذ نجيب محفوظ المحترم تحية طيبة وبعد،، فقد سررت جدا بهذه الفرصة الذهبية لإلفات نظر الأكاديمية إلى أعمالكم الادبية التى يشار إليها بالبنان لأننى لم آلف أحدا أجدر وأحق من سيادتكم بهذه الجائزة. فلذا هرعت إلى إرسال توصيتى المتواضعة مؤكدا أن منح سيادتكم جائزة نوبل يعنى إعطاء القوس باريها نظرا لما وضعتموه من مؤلفات تعتبر من أرسخ دعائم وركائز الأدب العربى المعاصر . فلا تؤاخذنى على عدم الاستشارة بسيادتكم قبل إرسال التوصية وذلكم لقصر الوقت، فأتمنى لسيادتكم أن تفوزوا بهذه الجائزة الرفيعة كى تحظى ثروتكم الأدبية بالاعتراف الدولى الذى تستحقه. وأخيرا فاقبلوا تمنياتنا القلبية مبتهلين من الله تعالى أن يعطيكم الحول والقوة والعافية للمضى فى إجزال العطاء الأدبى لكل الناطقين بالضاد. المخلص د. أ.شيفتيل رئيس قسم الدراسات العربية الحديثة جامعة ليذر- بريطانيا وبتاريخ 25 فبراير 1988 نجد خطابا يرد فيه "محفوظ " على رسالة "شيفتيل" هذا نصه: الأستاذ الدكتور شيفتيل تحية طيبة وبعد،، فقد تلقيت رسالتك الكريمة التى تنبئنى فيها بتفضلكم بتزكيتى لدى لجنة نوبل بالسعادة والشكر والتقدير، ومهما تكن النتيجة النهائية لمسعاكم الحميد فحسبى أننى فزت بتقدير أستاذ كبير فاضل مثلكم وهذا تقدير من ناحيته الأدبية لا يقل عن الجائزة بحال. أكرر الشكر يا سيدى ولك منى أطيب تحية المخلص نجيب محفوظ فى كلمته التاريخية التى أرسلها عميد الرواية العربية إلى الأكاديمية السويدية المانحة لجائز نوبل يقول "محفوظ" عن الحضارة الإسلامية: (وعن الحضارة الإسلامية فلن أحدثكم عن دعوتها إلى إقامة وحدة بشرية فى رحاب الخالق تنهض على الحرية والمساواة .. والتسامح .. ولا عن فتوحاته التى غرست آلاف المآذن الداعية للعبادة والتقوى والخير على امتداد أرض مترامية .. ما بين مشارف الهند والصين وحدود فرنسا .. ولا عن المؤاخاة التى تحققت فى حضنها بين الأديان والعناصر فى تسامح لم تعرفه الإنسانية ). وقد يتساءل سائل عن إيرادي لهذا المتجزأ من الكلمة التى تعتبر وثيقة قومية يجب أن تقرأ جيدا. والإجابة تكمن فى عنصرين: الأول: أنها تأكيد على انتماء محفوظ إلى الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامى والعربى القائم على التسامح والإخاء دون التفرقة بين شخص وشخص. الثانى: أن هذا المقطع الوجيز يرد على دعاة التكفير الذين لاحقوا أعمال الكاتب الكبير منذ أكثر من أربعين عاما مطالبين بمصادرة رواية "أولاد حارتنا" التى تمت مصادرتها بالفعل ومنعت طباعتها فى مصر . كذلك فتوى الشيخ عمر عبدالرحمن فى نهاية الثمانينيات بإهدار دم نجيب محفوظ مقارنة بإهدار "الخمينى" دم سلمان رشدى صاحب كتاب "آيات شيطانية". وهذه الفتوى أصعب وأمر من الأولى، لأن الأولى مصادرة على عمل، والثانية مصادرة على حياة، وما كان من بعض دعاة التكفير إلا أن قاموا بتحريض شاب لم يقرأ شيئا لنجيب محفوظ وربما لغيره من الكتاب، فطعنه فى رقبته ونجا منها "محفوظ" بأعجوبة، وكادت هذه الطعنة تودى بحياته، ولكن الله سلّم، ومع ذلك بقى لها تأثيرات عضوية عليه فلم يستطع بعدها أن يتحرك بانتظام وأن يكتب كما كان. يقول محفوظ في كلمته: "أنا ابن حضارتين تزاوجتا فى عصر من عصور التاريخ زواجا موفقا أولاهما عمرها سبعة آلاف سنة هى الحضارة الفرعونية، والثانية هى الحضارة الإسلامية ولعلى لست فى حاجة إلى التعريف بأى من الحضارتين لأحد منكم وأنتم من أهل الصفوة والعلم ولكن لا بأس من التفكير، ونحن فى مقام النجوى والتعارف وعن الحضارة الفرعونية لن أتحدث عن الغزوات الإمبراطورية، فقد أصبح ذلك من المفاخر البالية التى لا ترتاح لذكرها الضمائر الحديثة والحمد لله، ولن أتحدث عن اهتدائها لأول مرة إلى الله سبحانه وتعالى وكشفها عن فجر الضمير البشرى فلذلك مجال طويل، فضلا عن أنه لا يوجد بينكم من لم يلم بسيرة الملك النبى إخناتون، بل أتحدث عن إنجازاتها فى الفن والأدب ومعجزاتها الشهيرة "الأهرام وأبو الهول والكرنك"، فمن لم يسعده الحظ بمشاهدة تلك الآثار فقد قرأ عنها وتأمل صورها .. دعونى أقدمها – الحضارة الفرعونية – بما يشبه القصة طالما أن الظروف الخاصة قضت بأن أكون قصاصا .. فتفضلوا بسماع هذه الواقعة التاريخية المسجلة".