قضية للمناقشة لا يخدعنا الهدوء *بقلم فريدة النقاش لا ارتاح لعملية اقحام الدين في كل شيء خاصة في السياسة. ففي السياسة يحول الدين المواطنين إلى شيع وفرق, ويعمق الشروخ التي يسعي من يسمون أنفسهم برجال الدين- أو بعضهم علي الاقل لتوسيع رقعتها ابتغاء تحقيق مصالح أو تلبية تطلعات, أو استجابة لدول ذات نفوذ. ونعرف جيدا هذا التاريخ غير المريح للصراع بين دعاة الدولة الدينية وبين أصحاب التوجهات العلمانية والديموقراطية عامة, لا في اوروبا وحدها وانما في كل انحاء العالم تقريبا وإن بدرجات متفاوتة. ورغم الهزائم والانتكاسات التي تعرض لها دعاة الحكم الديني فلا يزال هؤلاء- حتي ولو ضعفوا- يقاومون من أجل مصالحهم. وقد تفاقمت هذه الظاهرة في الوطن العربي والعالم الاسلامي بعد ثورة النفط الذي اكتشفه اهل الخليج بغزارة, وأصبح عامل نزاع وفرقة, وقسم الدول- وحتي الشعوب العربية تقسيما جديدا علي أساسي الغني والفقر, وهو ما أسفر- رغم التأثير الايجابي علي التنمية والتطور الاقتصادي – عن تفاوتات كبيرة في مستوي المعيشة بين البلدان النفطية القليلة السكان والبلدان غير النفطية المكتظة بالسكان, وكأننا بازاء طبيعة منحازة للاقلية. وتصادف أن الدول غير النفطية هي التي كانت تاريخيا مناطق حضارة وتقدم مقارنة بالأوضاع شبه البدائية التي كانت تعيشها الدول التي أصبحت نفطية بعد ذلك. ويتابع بعضنا هذا النقاش الذي انطلق في الوطن العربي بعد ظهور الثروة النفطية, وهو نقاش وان كانت حدته قد خفتت مايزال قائما في محاولة للاجابة عن سؤال: هل يجوز أن تبقي هذه الثروة الهائلة مملوكة لأقلية تحسن أو لا تحسن استثمارها لصالح المجموع, وان كانت الدعوة للوحدة القومية علي تراجعت, ومن المفترض ان يصبح النفط عامل وحدة لا فرقة, أو هكذا يقول التفكير العقلاني. وبطبيعة الحال غالبا ما يعارض اصحاب النفط الدعوات للوحدة ا لقومية بل ويقاومون حتي الحد الادني منها تطلعا للاستئثار بالثروة لانها ناضبة من جهة, ولأن النزعات الأنانية التي لا يعترفون بها غالبا- تطغي علي مفهوم التوجه القومي والعمل الجماعي والرؤية المستقبلية لمصير المنطقة, ومصيرهم أنفسهم بعد نضوب النفط . وأدي افتقار العرب الي رؤية جماعية لمصالحهم قصيرة وطويلة المدى الي تبعثر الجهود وتعثر حتي محاولات التنسيق فيما بينها. وتثير الأسس المقارنة بين قدرة الدول الاوروبية علي التنسيق الذي يزداد عمقا كل يوم فيما بينها, وبين عجز العرب عن الوصول الي مثل هذا التنسيق رغم أن ما يربط بينهم هو اعمق كثيرا مما يربط بين دول الاتحاد الاوروبي. ولا يجوز لنا أن نقبل بانتهاء المسألة عند هذا الحد, لأن لدي الوطن العربي من المؤسسات والعقول المفكرة المتطلعة الي الوحدة القومية علي أسس علمية وموضوعية ما تفخر به أي أمة, ولكننا لا نحسن الاستفادة منها حتي الآن. ونتوقف هنا لنسعي معا للتعرف علي جذر المشكلة, وأظن انه سوف تواجهنا علي التو قضية الحريات العامة, وهي واحدة من القضايا الشائكة في الوطن العربي والتي لا يجوز لنا ان نؤجلها باسم اي مبرر. ذلك أن تقييد هذه الحريات لا يصيب فقط حرية التعبير وهو ما يعطل المواهب, وانما يصيب البناء العام للمجتمع بالركود, ويمهد الأرض للفساد وتعطيل آليات العلم وشلل المؤسسات, وتبديد المواهب. نحن اذن امام قضية حقيقية لا يلوح لي أنها في الطريق الي الحل لاسباب كثيرة, وهو ما يدعونا الي اوسع "تنسيق بين الجهود البحثية والعلمية من جهة, وجهود الدفاع عن الحريات العامة من الجهة الاخري, وهي قضية سياسية في المقام الاول. بدأت تجربة مصر في التقدم والتحديث والدخول بقوة الي قلب العصر مبكرا وقبل دول كثيرة في المنطقة, ولاسباب كثيرة كان ايقاع دخولها بطيئا, ونحن مدعوون الآن الي تدارك ما فاتنا, لان ما لدينا من مؤسسات وكفاءات فضلا عن التاريخ يؤهلنا لان نكون في صدارة الأمم من حيث التقدم والانجاز الحضاري والثقافي. ولا يعترف اصحاب النظرة التقليدية والفكر الجامد بأن للعدالة الاجتماعية والارتقاء بمعيشة غالبية السكان دورا اساسيا في النهوض الحضاري الشامل, إذ أن بؤس العيش يبدد المواهب والطاقات, وهي بديهية يعرفها الجميع. ونعرف جميعا ان مصر تقدمت بخطوات صاروخية في ظل التجربة الناصرية التي حملت البلاد الي افاق بعيدة من التقدم رغم كل العثرات والمثالب. والآن لا ينبغي ان يخدعنا الهدوء العام السائر, فعادة ما تحتدم النيران تحت الرماد, وهناك اسباب كثيرة لاحتدام النيران لأن جزءا لا يستهان به من مواطني بلادنا يعيشون ظروفا غير ادمية, ولابد ان يأتي الوقت الذي سوف تنفجر فيه, ونحن مطالبون بتدارك الامر قبل الانفجار ويتصور كثيرون وانا منهم أن هناك حاجة لخطوة قوية وواثقة في اتجاه توسيع قاعدة الحريات العامة حتي يتمكن المواطنون من الدفاع عن حقوقهم.