رغم أن زيارة رئيس بيلاروسيا الكسندر لوكاشينكو لموسكو ولقائه بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى التاسع من سبتمبر الجارى، هى الخامسة خلال عام تقريباً مما يعكس بلا شك استراتيجية موسكو الجديدة فى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتى السابق والتحول من التشدد إلى البراجماتية والهدوء والنفس الطويل. وإذا تحدثنا عن لقاء الرئيسين الذى تأخر عن موعده قرابة الساعة، كما يرصد بعض المراقبين موسكو تحلت بالصبر والبراجماتية فيما يتعلق بإنجاز علاقات التكامل مع بيلاروسيا، حتى أن الرئيس بوتين فى بداية لقائه بالضيف البيلاروسى سأله عن مدى تنفيذه لما اتفقا عليه فى اللقاءات السابقة، حارماً بذلك ضيفه من المناورة والخداع اللذين اشتهر بهما، وفى هذا الإطار حاول الرئيسان الاتفاق على خارطة طريق تنفذ بالفعل، حيث تمركزت بالفعل طائرات روسية من طراز سو 30 فى قاعدة بارنوفيتش بمنطقة بريست بالقرب من الحدود مع بولندا، ما يعنى أن روسيا بدأت جنى ثمار ما قدمت لبيلاروسيا أثناء الاضطرابات التى حدثت بعيد الانتخابات الرئاسية التى حدثت العام الماضى وكادت أن تطيح بالنظام الحليف لروسيا والأقرب فى فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتى. القواعد الروسية وهنا يجب ملاحظة أن مينسك ظلت لأعوام كثيرة تقاوم سواء مسألة تعميق التكامل مع موسكو وفق الاتفاق على إقامة دولة اتحادية أو إقامة قاعدة عسكرية روسية على أراضيها فى محاولة من الرئيس لوكاشينكو لعدم إغضاب الأوروبيين أو الغرب بصفة عامة، لاعباً بذلك على التناقضات بين الغرب وموسكو، موحياً للغرب بأنه يحميهم من وجود روسى فى قلب أوروبا وفى نفس الوقت يوحى لموسكو بأنه خط الدفاع الأول ضد توسع الناتو والغرب شرقاً نتيجة تمسكه بالسلطة وحماية المصالح الروسية، وكان فى اعتقاد الرئيس البيلاروسى أن وجود القواعد الروسية سينتقص من سيادة بلاده، وسيزيد من غضب الغرب عليه مما سيحرمه من القدرة على المناورة، لكن الرئيس بوتين استطاع استدراجه للموافقة على التمركز الروسى فى قاعدة بارانوفيتش، وهى من أكثر النقاط المتقدمة فى وسط أوروبا، لكن ورغم وجود القاذفات الروسية فى قاعدة بارانوفيش بغرض تأسيس مركز تدريب بالاشتراك مع القوات الجوية وقوات الدفاع الجوى البيلاروسية، فإن موسكو استطاعت كسر معارضة الرئيس لوكاشينكو، الذى كان يقترح فى السابق ترك مسألة الدفاع عن دول منظمة الأمن الجماعى من الغرب لبلاده بعيداً عن أى تدخل خارجى. استراتيجية جديدة وبصفة عامة تعتبر سياسة موسكو تجاه بيلاروسيا فى الأعوام الأخيرة نموذجا واضحا لاستراتيجية موسكو الجديدة تجاه دول الاتحاد السوفيتى السابق وتتمثل فى مبدأين أساسيين وهما الشدة وفى نفس الوقت البراجماتية أو العصا والجزرة، حيث يتم تقديم المساعدات الاقتصادية الروسية فقط فى مقابل خطوات محددة يقدمها الجانب الآخر، وفى حالة بيلاروسيا مقابل تعميق التكامل مع روسيا، هذه السياسة فرضتها الظروف الاقتصادية الروسية التى لم يعد لديها الكثير لدفعه مقابل تصريحات فارغة من المضمون أو حتى مواقف سياسية من قبل بعض دول الاتحاد السوفيتى السابق، ولذلك فإن روسيا اتجهت إلى فكرة المساعدة مقابل نتائج محددة، وما يدعم مواقف روسيا فى مواجهاتها مع الغرب، خاصة من تلك الدول التى تعتمد اقتصادياً على روسيا مثل بيلاروسيا. فى البداية ومع مراوغات ومراوحات لوكاشينكو بين الغرب وموسكو، لم يدرك أن قواعد اللعبة قد تغيرت، وأنه لن تكون مساعدات اقتصادية من موسكو إلا مقابل خطوات محددة من جانب مينسك فى اتجاه تعميق التكامل فى إطار الإعلان عن دولة اتحادية مع روسيا، وأكبر دليل على تطبيق الاستراتيجية الروسية الجديدة، هو رفض روسيا معاملة بيلاروسيا فى أسعار الغاز مثل المناطق والمقاطعات الروسية وردت روسيا على ذلك بقولهم إنها أى بيلاروسيا يجب أن تكون جزءاً من الفيدرالية الروسية حتى تتمتع بأسعار المناطق الروسية، وكان الرئيس البيلاروسى يعتقد أن اللعب مع الغرب، الذى احتضن المعارضة البيلاروسية فى شخص سفيتلانا تيخونوفسكايا منافسته فى الانتخابات الرئاسية، سيجبر موسكو على تقديم تنازلات له، ومن خلال إمداده بالنفط والغاز والقروض له سيبتعد عن الغرب، لكن على ما يبدو وكما هو واضح من الزيارة الأخيرة هذا الاسلوب لم يعد ذا نفع مع القيصر الروسى الذى على ما يبدو مل لعب مينسك على الحبلين، لدرجة أن موسكو لم تعد تعير تصرفات وتهديدات بيلاروسيا بالاتجاه غرباً أى اهتمام، لإدراكها أن الاتجاه غرباً هو بمثابة انتحار سياسى للرئيس البيلاروسى، لأن الغرب لن يهدأ حتى الإطاحة بلوكاشينكو. ويبدو أن هذا الأخير لم يستوعب درس زميله يانوكوفيتش فى أوكرانيا عندما حاول اللعب مع الغرب من وراء ظهر موسكو وما أدى إليه من خسائر له ولبلاده، حيث فقد سلطته وتمزقت دولته. ميدان للصراع على أى حال يبدو أن الرئيس لوكاشينكو استوعب الدرس، وأدرك أن مصلحة بلاده مع موسكو بالدرجة الأولى، حيث تؤمن روسيا الاستقرار السياسى للنظام فى بيلاروسيا، وكما أظهرت الأحداث الأخيرة فى أوكرانيا، أن فضاء الاتحاد السوفيتى السابق هو مجرد ميدان للصراع بين روسيا والغرب. وهو ما جعل الأحداث الأخيرة فى بيلاروسيا بعد الانتخابات الرئاسية وما شابها من اضطرابات إلى إجبار الرئيس لوكاشينكو لتقديم تنازلات جوهرية لروسيا ووعد موسكو بتعميق التكامل، ووعده لشعبه بالتنحى عن السلطة بعد إجراء إصلاحات دستورية، لكن على ما يبدو لن يقوم الرئيس البيلاروسى بذلك ولن ينفذ وعوده بالإصلاحات الدستورية، وسيفضل على ذلك التكامل مع روسيا. الزيارة الأخير شهدت الاتفاق على تنفيذ 28 برنامجا للتكامل بين مؤسسات البلدين على أن يُعقد اجتماع آخر بين الرئيس الروسى والبيلاروسى فى الرابع من نوفمبر المقبل، لكن حتى هنا مازالت بيلاروسيا تاركة الباب موارباً للتراجع، ويمكن رصد ذلك بوضوح من خلال تصريحات النائب الأول لرئيس وزراء بيلاروسيا نيكولاى سنوبكوف الذى قال "إن كل البرامج الاتحادية بين البلدين يجب إعدادها واعتمادها خلال العام الجارى، وسيتطلب الأمر من أربع إلى ست سنوات لتنفيذها"، وهو ما يعنى أن الجانب البيلاروسى يريد أن يعطى لنفسه فسحة من الوقت ربما للتراجع. ترقب الغرب كان من الممكن ألا يكون للزيارة الأهمية التى أفردتها لها وسائل الإعلام سواء المحلية أو الأوروبية لولا ترقب الغرب بأن تحدث الزيارة نقلة نوعية فى العلاقات بين البلدين، خاصة مع حشود عسكرية بولندية فى شرق البلاد، مكونة من 4 آلاف جندى و1000 قطعة من المعدات العسكرية وذلك لمواجهة مناورات الخريف الروسية البيلاروسية، بالإضافة لتمركز طائرات سو 30 القاذفة المقاتلة في قاعدة بارنوفيتش فى بيلاروسيا. كما أن كثيرا من الخبراء كانوا يتوقعون حدوث نقلة نوعية فى العلاقات بين مينسك وموسكو فى هذه الزيارة، على خلفية الحالة الاقتصادية السيئة فى بيلاروسيا والضغوط الغربية السياسية والاقتصادية، وهو ما حدث بالفعل وأتت سياسة الرئيس بوتين أكلها عندما تم التوافق على 28 من البرامج الاتحادية بين البلدين مع وعد باستكمال ما تبقى فى 4 نوفمبر القادم، القضية الأهم بالنسبة لروسيا والتى يلوم الكثيرون القيادة الروسية عليها عدم اعتراف بيلاروسيا بالقرم كجزء من روسيا، حتى الآن لم تعترف مينسك بذلك تاركة طاقة مواربة مع الغرب فى حال التراجع أو فى حال ما إذا أبدى الغرب رغبة فى تقديم تنازلات لمينسك. بالنسبة لكثير من المراقبين، سيكون اعتراف الرئيس لوكاشينكو بالقرم جزءا من روسيا هو الخط الفاصل بين انحيازها لروسيا أو وجود الأمل فى إصلاح علاقتها بالغرب. مواجهة الناتو روسيا فى حاجة لبيلاروسيا لمواجهة توسع الناتو شرقاً، فى نفس الوقت الذى فتح الغرب أمامها جبهة جديدة متمثلة فى انسحاب وإن شئت هروب الولاياتالمتحدة من أفغانستان وظهور خطر الإرهاب يطل برأسه من المناطق الجنوبية حيث حلفاء روسيا فى وسط آسيا وحزامها الواقى من خطر التطرف على مسلميها مما سيجعل روسيا تولى مناطق وسط آسيا الجنوبية جل اهتمامها للوقاية من خطر انتقال التطرف إليها ومن ثم إلى روسيا، ومن هنا سيكون على مينسك التقارب أكثر والإسراع بعملية التكامل وممكن الوحدة مع موسكو، لأن الأخيرة ستحول اهتمامها إلى وسط آسيا لمواجهة خطر أكبر وهو الإرهاب، ومن سيعرف خطر الإرهاب أكثر من روسيا، فهى انغمست لعشر سنوات فى أفغانستان ثم حرب الشيشان، وحتى الآن لا يخلو الأمر من ضربات وقائية لعناصر إرهابية.