يبدو أن الأمور فى بيلاروسيا تسير نحو السيناريو الفنزويلى، حيث أعلن الرئيس البيلاروسى الكسندر لوكاشينكو عن تنصيب نفسه رئيساً للبلاد فى خطوة مفاجئة لم يعلن عنها من قبل، ولم يعرف بها أحد سواء من وسائل الإعلام المحلية أو العالمية وبشكل مفاجئ، كان من الواضح أن روسيا غير راضية عن الخطوة، فعندما سئلت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عن تنصيب الرئيس لوكاشينكو لنفسه رئيسا قبل الميعاد المحدد دستوريا بأسبوعين، قالت إن هذا شأن داخلى يخص بيلاروسيا وحدها. بعض المصادر فى الكرملين وعلى وجه التحديد دميترى بيسكوف السكرتير الصحفى للرئيس بوتين، أشارت إلى أن الرئيس بوتين لم يهنئ نظيره البيلاروسى بالتنصيب، وقطع بأنه ليس من المحتمل أن يقوم بذلك، تلقى الرئيس البيلاروسى تهنئة من رئيس الصين ومن رئيس تركمنستان. الرئيس لوكاشينكو من جانبه قال إن عملية التنصيب لم تكن سرية وهى شأن يخص بيلاروسيا واحتجاج أوكرانيا ودول البلطيق وبولندا بأنهم لم يخطروا اعتبره الرئيس البيلاروسى بأنه أمر لا يعنيهم ونفى السرية عن التنصيب قائلاً حضره 3 آلاف شخص أين السرية هنا. وأعلنت المرشحة الرئاسية السابقة سفيتلانا تيخانوفسكايا أنها رئيسة البلاد الفعلية، حيث تعترف بها دول الاتحاد الأوروبى كلها تقريباً، وأنها ستنصب نفسها رئيسة للبلاد فى المنفى، حيث سيقيم الشعب البيلاروسى عملية تنصيب شعبية لمن يعتبرها رئيسته (يوم الأحد 27)، وعلى طريقة مادورو وجوايدو أحدهما تعترف به روسياوالصين وبعض دول أمريكا اللاتينية وجوايدو يعترف به الاتحاد الأوروبى والغرب بصفة عامة. أين الرئيس بوتين من كل هذا، فهو هنأ الرئيس لوكاشينكو بالفوز فى الانتخابات، وهو اعترف بنتائجها، غير أن حتى هذه اللحظة لا يريد التعجل بتوقيع أى اتفاقيات مع الرئيس البيلاروسى رغم التنصيب، ويقول المحلل السياسى البيلاروسى الكسندر فيدوتا "أنه من الواضح جداً أن الرئيس بوتين يبذل قصارى جهده لكى لا يتورط فى النزاع السياسى الداخلى البيلاروسى فيصعد من المواجهة مع الغرب، بل ويحاول التهرب من لوكاشينكو، آخذاً فى الاعتبار مواقف سابقة حدثت مع الرئيس الأوكرانى الأسبق يانوكوفيتش، حيث هنأه الرئيس بوتين بالفوز، رغم اختلاف الظروف، فقد جاء يانوكوفيتش كانتصار على الثورة البرتقالية التى انتزعت منه الفوز فى جولة انتخابية سابقة جاء على أثرها يوشينكو الليبرالى. فى اعتقاد المحلل السياسى سيتفق الرئيس بوتين مع بيلاروسيا على شيء ما لكن مع قيادة جديدة لهذه الدولة الحليفة. ووفق رأى السيد فيدوتا، لا شيء يهدد استقلال بيلاروسيا، لأن الرئيس بوتين يقيّم الوضع على أساس أن أى قرار سيوقعه لوكاشينكو الآن سيجرى الطعن فيه، وهو فى غنى عن مشاكل كهذه وهو يريد أن تكون لديه مساحة من المناورة للحوار مع أى قيادة بيلاروسية قادمة فى المستقبل، بعض الخبراء يتحدث كذلك عن أن الرئيس بوتين ينتظر على أحر من الجمر أن يتنحى الرئيس لوكاشينكو عن السلطة بنفسه، فهو لن يسمح بالإطاحة به عنوة. عدم سماح الرئيس بوتين بالإطاحة برئيس بيلاروسيا بالقوة، له مغزى سياسى فهو يخشى تكرار السيناريو مع حلفاء كثيرين لروسيا، وخاصة فى منطقة وسط آسيا التى تحرص روسيا على الاستقرار فيها، خاصة فى دولة حليفة مثل طاجيكستان والتى تشهد انتخابات رئاسية وبرلمانية فى الوقت الحالى ولروسيا قاعدة عسكرية مهمة هناك، وقيرجيزستان وهى دولة حليفة لروسيا وتوجد بها قاعدة روسية، والرئيس بوتين يتمنى أن يتنحى الرئيس لوكاشينكو بنفسه عن الحكم، فهو بذلك سيرفع الكثير من الحرج عن صديقه القديم. على أى حال روسياوبيلاروسيا دولتان تحتاجان لبعضهما البعض مثل طرفى المقص، لا يمكن لأحدهما الاستغناء عن الآخر، فالمنتجات البيلاروسية لا يمكن تصريفها إلا فى روسيا حيث اعتاد عليها المواطن الروسى، وفى نفس الوقت لا يمكن لبيلاروسيا الاستغناء عن المحروقات الروسية سهلة الوصول إليها والتى تحصل عليها بأسعار استثنائية بما يحقق أرباحا لمينسك من بيع منتجات تقطير النفط لدول البلطيق وأوكرانيا. بالنسبة لروسيا تعتبر بيلاروسيا مصدا أماميا فى وجه توسع الناتو شرقاً، حيث تمتلك موسكو ثلاث قواعد عسكرية، وتقوم بعمليات تدريب مشترك ومناورات لإرسالة رسائل لحلف الناتو مفادها أن روسيا مستيقظة ومستعدة للتصدى لأى مغامرة، غير أنه وفق حديث للرئيس لوكاشينكو هناك أجيال جديدة منفتحة على وسائل التواصل الاجتماعى لا تدرك أهمية هذه الأشياء، جيل جديد بمفاهيم جديدة علي الرؤساء التعامل معه. ورغم ما يجرى فى الكواليس بين روسيا والغرب وروسيا وبعض الشخصيات البيلاروسية، هناك من يحذر روسيا من خسارة بيلاروسيا كحليف، فيقول السيد فلاديمير كولوتوف أستاذ التاريخ بجامعة سان بطرسبورج، إن روسيا يجب أن تصحح سياساتها وتنتهج إيديولوجية قوية، وضرب مثلاً ببيلاروسياوأوكرانيا ودول الاتحاد السوفيتى السابق الأخرى، وأشار إلى أنه يكفى هنا التكامل الوثيق، ولكنه فى نفس الوقت أعرب عن قلقه من تصاعد التيار القومى فى بيلاروسيا، وضرب مثلاً بتصريحات للسيد ستانيسلاف شوشكيفيتش أول رئيس لبيلوروسيا بعد الاستقلال وأحد مهندسى هدم الاتحاد السوفيتى، والتى طالب فيها بمنع استخدام اللغة الروسية فى البلاد، وأعرب السيد كولوتوف عن أسفه من انحسار اللغة الروسية فى كثير من المناطق السوفيتية السابقة وبعضها حليف لروسيا، فقد كانت اللغة الروسية إحدى وسائل القوى الناعمة الروسية الهامة جداً، وأشار أستاذ التاريخ إن الغرب يريد بناء طوق معادٍ لروسيا حولها، وحذر من أن الطوق يضيق ليس كل عام بل كل شهر، مشيراً إلى أوكرانيا باعتبارها خير مثال على ذلك والرئيس الأوكرانى يانوكوفيتش الذى تعامل مع القوميين فخلعوه فى النهاية وأصبحت أوكرانيا جزءًا من هذا الطوق، وتخشى روسيا كذلك أن ينفرط عقد دول وسط آسيا الحليفة لها إذا ما تخلت عن بيلاروسيا بسهولة لذلك لن يسمح الرئيس بوتين بسقوط نظام الرئيس لوكاشينكو، بل سيحاول أن يجعل هذا يحدث برغبته وإرادته، بعد أن يكون قد اتفق مع القيادة الجديدة المتوقع أن تأتى للحكم فى مينسك. فى كل الأحوال أثناء كتابة هذا المقال من المقرر أن تجرى يوم الأحد 27 /9/2020 عملية تنصيب لمنافسة الرئيس لوكاشينكو تحت شعار "سفيتا رئيس" وكلمة سفيتا هى اختصار لاسم منافسة لوكاشينكو سفيتلانا تيخانوفسكايا، لكن الأهم من هذا وذاك أننا سنجد أنفسنا أمام السيناريو الفنزويلى، وإذا كانت أهمية فنزويلا بالنسبة لروسيا هو موقعها الجغرافى حيث تقع فى الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، وهو أمر لا تسمح به واشنطن (كلنا يذكر أزمة الكاريبى مع كوبا فى بداية ستينيات القرن الماضى)، وهنا جاء التدخل الروسى رداً على التدخل الأمريكى الغربى فى أوكرانيا الحديقة الخلفية وخاصرة روسيا، وإذا كانت أوكرانيا بهذه الأهمية، فإن بيلاروسيا عملياً تقع فى داخل روسيا نفسها ولا أتصور أن الرئيس بوتين لديه استعداد للتخلى بسهولة عن بيلاروسيا، مهما كانت القيادة الموجودة هناك حالياً، وخير من يمثل هذه القيادة فى هذا البلد من حيث ملاءمتها لروسيا حالياً على، الأقل، هو لوكاشينكو، وإلا ستكون الخسائر الجيوسياسية كبيرة وفى مناطق أخرى من فضاء الاتحاد السوفيتى السابق.