ربما لم تشهد جمهورية بيلاروسيا، تلك الجمهورية السوفيتية السابقة، على مدى تاريخها بعد الانفصال أو انهيار الاتحاد السوفيتى عام 1991 انتخابات مثيرة للجدل للمشاكل مثل تلك التى تجرى الآن، فالرئيس الحالى الكسندر لوكاشينكو يحكم البلاد لمدة 26 عاماً، منذ عام 1994، وبوصوله إلى السلطة حقق نوعًا من الاستقرار النسبى، بحيث لم يجد المواطن البيلاروسى أى اختلاف تقريباً عن الحقبة السوفيتية، فقد حافظ الرئيس على الصناعات السوفيتية، التى لم تكن على درجة عالية من الجودة لكنها موجودة وحاضرة، ولم يعتمد على الاستيراد كما فعلت كثير من الدول ذات الدخول المرتفعة من دول الاتحاد السوفيتى السابق، وحافظ الرئيس لوكاشينكو على علاقات جيدة، من الممكن أن نقول تحالف، مع روسيا، فهى مورد المحروقات الوحيد من نفط وغاز على مدى السنوات السابقة وبأسعار استثنائية، غير أن الأحوال تغيرت فى الفترة الأخيرة، فانخفاض أسعار النفط ومن ثم الغاز جعل روسيا فى أمس الحاجة إلى استغلال مواردها على أحسن ما يكون ومن ثم بدأ الجدل حول أسعار النفط والغاز. الرئيس البيلاروسى لوكاشينكو من جانبه لم يقف مكتوف الأيدى إزاء تعثر المفاوضات الخاصة بأسعار المحروقات، وبدأ يتجه إلى الغرب، فزار النمسا وحاول بل وتعاقد على شراء نفط من أذربيجان، ويقال إن شحنة نفط سوف تأتيه من الولاياتالمتحدة، وذلك فى سبيل التخلص من السيطرة الروسية والإيحاء بأنه قد يقوم بالاستغناء عن المحروقات الروسية، لكن فى المقابل سيكون على روسيا أن تسحب قواتها وتخلى قواعدها الموجودة فى بيلاروسيا، ومنها أسلحة نووية. كانت روسيا ترى فى الجمهورية السوفيتية السابقة مصد أو نقطة متقدمة لمواجهة قوات الناتو التى تتحرك بلا هوادة فى اتجاه الشرق للاقتراب من أقرب نقطة من قلب روسيا. للحق هناك الكثير من المراقبين يرون أن علاقة بيلاروسيا تغيرت بجارتها العملاقة روسيا بعد أحداث عام 2014 واستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم ودعم الحركات الانفصالية فى شرق أوكرانيا (دنيتسك ولوجانسك) أو ما يسمى بالدنباس، وبعد أن كانت الوحدة الإندماجية بين البلدين قاب قوسين أو أدنى، تعلمت مينسك من عدم سعى مقاطعات مثل أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا فى جورجيا، وكذلك لوجانسك ودنيتسك للانضمام لروسيا. كما أن بيلاوروسيا لم تعترف حتى هذه اللحظة بالقرم كجزء من روسيا ولا تقبل صادرات مصنعة فى القرم متماهية بذلك مع عقوبات أمريكية فرضت على روسيا. عندما حان موعد الانتخابات البيلاوروسية وجد الرئيس لوكاشينكو ضالته فى التقارب مع الغرب، ويبدو أن روسيا شعرت بأن شهر العسل الطويل مع تلك الجمهورية السوفيتية السابقة قد شارف على الانتهاء، حاولت العبث والتدخل فى العملية الانتخابية، وكما يقال إن بيلاروسيا ألقت القبض على عدد من مقاتلى شركة "فاجنر" ذات الشهرة الواسعة فى ليبيا حالياً ومن قبل فى سوريا والسودان، وهنا برز دور لأوكرانيا التى أعلنت أن بعضًا من هؤلاء قاتل إلى جانب الإنفصاليين فى شرق البلاد، وطلبت بتسليمهم لها، فيما اتهمت بيلاروسيا هؤلاء ال 33 الذين تم القبض عليهم بأنهم قدموا لإثارة الفوضى ولإفشال العملية الانتخابية ولم تقف عند هذا، بل قالت إن عدد أعضاء فاجنر فى بيلوروسيا وصل لأكثر من مائتى شخص حتى الآن منتشرين بطول البلاد وعرضها. مازال الموضوع عالقًا حتى الآن خاصة أن الجانب الروسى قال إنهم فى بيلوروسيا ترانزيت، وأنهم فى طريقهم لاسطنبول، ومنها لدولة ثالثة، فى طريقهم لأمريكا اللاتينية. على أى حال التردد الروسى جعل الرئيس الأوكرانى يهاتف نظيره البيلوروسى ويطلب تسليم مقاتلى فاجنر على اعتبار أن بعضهم قاتل فى شرق أوكرانيا، وهو الأمر الذى جعل الرئيس لوكاشينكو يطلب من روسيا ومن أوكرانيا إرسال محققين للتحقيق مع هؤلاء الأفراد فى بيلوروسيا، لمعرفة أهدافهم وما إذا كانوا قاتلوا فى شرق أوكرانيا أم لا. ألم أقل لكم إنها اكثر الانتخابات إثارة للجدل، فقد ترشح فى الانتخابات كل من الرئيس الحالى الكسندر لوكاشينكو، غنى عن التعريف، فهو فى سدة الحكم منذ 1994، والذى صرح بأنه بعد عامين من انتخابه هذه المرة سيقوم يإصلاحات دستورية تتيح للسلطات المحلية صلاحيات أوسع وأنه سيزيد الرواتب، ثم السيدة أنا كانوباتسكايا منذ فترة ليست ببعيدة كانت عضواً بالبرلمان، اشتهرت فى الأيام الأخيرة بمعارضتها للاتفاق الاتحادى المزمع مع روسيا، رغم أن البعض يتهمها بأنها مرشحة من قبل الرئيس البيلوروسى لتشتيت الأصوات، ثم تأتى زوجة المدون سيرجى تيخانوفسكى واسمها سفيتلانا وهى ترشحت بعد أن تم إلقاء القبض على زوجها، وهى ربة منزل سيدة بسيطة لا تفهم كثيراً فى السياسة، كما قالت هى نفسها لكن التفاف الشعب حولها جعلها نجمة ولا أدرى ماذا ستفعل بعد الانتخابات بعد انحسار النجومية، وهى تقول إنها ستفرج عن من أسمتهم المسجونين السياسيين، وأنها لن تبقى فى السلطة لأكثر من عام فى حال نجاحها وستقوم بتعديل الدستور وتجرى انتخابات جديدة. وهى تحالفت مع زوجة فيرونيكا تسيبكالو وكان مرشحاً تمت إزاحته عن الترشح فهرب إلى روسيا وهو دبلوماسى سابق ويدعى فاليرى تسيبكالو، ثم المرشح أندريه ديمتريف رئيس جماعة سياسية تدعى "قول الحقيقة"، وكان ناشطًا مع المعارضة فى انتخابات 2010، ثم يأتى المرشح سيرجى تشيرتشين وهو زعيم الاشتراكيين الديموقراطيين فى بيلاوروسيا وزعيم الحزب، ويعتبر ستانيسلاف شوشكييفتش أول حاكم لبيلاوروسيا بعد الاستقلال، والذى هدم الاتحاد السوفييتى مع يلتسين وأول رئيس لأوكرانيا كرافتشوك، رئيسا شرفياً للحزب، وصف ديميريف الانتخابات الحالية فى بيلاروسيا بأنها ليست منافسة بل مواجهة، وهناك مرشح تم إلقاء القبض عليه يدعى فيكتور باباريكو، وهو رئيس مجلس إدارة بنك واتهمته السلطات بالرشوة والفساد والاختلاس، وكما يقول المراقبون إنه كان المنافس الحقيقى للرئيس الحالى. أما من من هؤلاء المرشحين موال لروسيا، كل وسائل الإعلام تشير فقط إلى الرئيس لوكاشينكو، أما الغرب فهو يركز على المرشحة سفيتلانا تيخانوفسكايا، رغم أنه فى اعتقادى لا يعلق أملا كبيرا على نجاحها رغم تسلط الأضواء على مؤتمراتها، فهى سيدة كما تقول هى ليست سياسية ووجدت نفسها فى هذا الموقف بعد إلقاء القبض على زوجها، حتى أنها طلبت من المستشارة الألمانية ميركل بحث الرئيس الكسندر لوكاشينكو على إجراء انتخابات نزيهة. لكن بلا شك قام الغرب بعملية تخويف كبيرة للرئيس البيلوروسى الذى لا أشك فى أنه سيفوز ما لم تحدث مفاجأة، الرئيس البيلوروسى من جانبه أعلنها صراحة أنه لن يتخل عن السلطة. فى يوم الانتخابات بدت الأجواء مشحونة والإقبال كبير رغم التصويت المبكر الذى سمحت به السلطات البيلاروسية تجنباً للعدوى فى ظروف انتشار عدوى الكورونا، وكما قالت السلطات إن أكثر من 40% صوتوا قبل الميعاد حيث بدأ التصويت من يوم 4 اغسطس. على أى حال قليل من المراقبين من كان يتوقع حدوث مفاجأة فى هذه الانتخابات حتى المؤيدين للسيدة سفيتلانا تيخونوفسكايا، كل ما يريده المواطن هو الأمن والابتعاد عن العنف، ورغم أن مؤيدى تيخونوفسكايا يحملون على معصمهم شريطا أبيض، فيما يمكن تفسيره بأن المعارضة تستعد لصراع ميدانى فى الشارع أو ثورة من الثورات الملونة يكون رمزاً لها هذا الشريط الأبيض على غرار ثورة البرتقالى فى أوكرانيا عام 2004، لكن حتى الآن ورغم إعلان نتائج الانتخابات الأولية والتى تشير إلى تفوق كاسح للرئيس البيلاروسى على منافسته سفيتلانا تيخونوفسكايا، لم تحدث أى مظاهرات أو مظاهرات احتجاج على النتائج، ورغم أن هذه النتائج الأولية "إكست بول" حكومية إلا أن المعارضة تتحدث عن عكس هذه النتائج، فى كل الأحوال سيتعرض الرئيس البيلاروسى لانتقادات حادة من الغرب الذى لم يحضر عنه مراقبون للانتخابات، وفى نفس الوقت هناك قضية "فاجنر" معلقة مع روسيا وأعتقد أنها ستكون عنصرا لإصلاح العلاقات مع روسيا، وهو نفسه لوكاشينكو قال إن علاقات التحالف مع روسيا ستستمر، لكن سننوع مصادر شرائنا للنفط. الكثير من المراقبين يتوقعون أن ينفذ الرئيس البيلاروسى ما وعد به به من القيام بتعديل الدستور والتخلى عن بعض صلاحياته للسلطات المحلية فى المناطق، لكن بعض المحللين يرون أن صورة الرئيس اهتزت كثيراً عندما قامت سيدة، زوجها قبض عليه، بكل هذا العمل السياسى، وهى ربة منزل، ورغم تصريح الرئيس البيلاروسى بأنه لا يعترف بسفيتلانا تيخونوفسكايا منافسة له، إلا أن موقفه اهتز كثيراً، ولذلك لا يستبعد البعض خلال العامين القادمين أن يطبق السيناريو الروسى للرئيس يلتسين، وهو أن يجد خليفة يضمن له العيش فى هدوء ودون ملاحقة كما فعل الرئيس الروسى السابق يلتسين، عندما تخلى عن السلطة للرئيس الحالى بوتين. على أى حال النتائج الأولية للانتخابات تشير إلى حصوله على ما يقارب 80% من الأصوات، ومنافسته تيخونوفسكايا على حوالى 7%، وباقى المرشحين لم يحصل أفضلهم حتى على 3%. لكن ورغم أولية النتائج فهناك حالة غضب عارم للمواطنين البيلاروس سواء فى روسيا أو فى أوكرانيا، أما العاصمة البيلاروسية مينسك فقد أغلقها الرئيس لوكاشينكو بالضبة، ومقطوع عنها النت والاتصالات لحين إشعار آخر. فى أخر نتائج أعلنتها اللجنة المركزية للانتخابات وهى النتائج الرسمية، حصل الرئيس لوكاشينكو على 80,23% بينما حصلت مرشحة المعارضة على 9,9%. لا يستطيع أحد التكهن بما سيحدث فى المستقبل القريب، فهذا متوقف على سلوكيات الشعب البيلاروسى، ورؤيته لنتائج الانتخابات، ولا نغفل هنا موقف روسيا والاتحاد الأوروبى الذى يعتبر لوكاشينكو أخر ديكتاتور فى أوروبا، ومدى تماهى الاتحاد الأوروبى مع الوضع الجديد فى مينسك. كل ما على السلطات البيلاروسية الآن هو محاولة تهدئة الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها حتى لا يحدث استقطاب خارجى وتتسع رقعة الاحتجاجات، خاصة أن الليلة الماضية من الاحتجاجات أسفرت عن مصرع مواطن وإصابة العشرات. وفى تعليقها على نتائج الانتخابات قالت منافسة الرئيس البيلاروسى مخاطبة أنصارها قائلة إننا انتصرنا على الخوف وانتصرنا على عدم كوننا سياسيين، وهذا يكفى، مشيرة إلى أن بلادها تغيرت بفضل هذه الانتخابات. أما الرئيس لوكاشينكو فقد حذر من أى حركات احتجاجية متوعداً بسحقها. ماذا تخبئ الأيام المقبلة لبيلاروسيا وشعبها لا يستطيع أحد التكهن.