يحيي الرفاعي.. والديمقراطية من الصعب علي الكتابة عن المستشار الجليل «يحيي الرفاعي» بلغة الغياب، فهو حاضر دائما بمواقفة ونضاله دفاعا عن استقلال القضاء والحريات العامة والديمقراطية، ولكن سنة الحياة هو الرحيل عنها في أجل محتوم. وقد عرفت «يحيي الرفاعي» لما يقرب من أربعة عقود يمكن تقسيمها إلي فترتين. في الفترة الأولي تابعت نضاله عن بعد، وكنت مهتما بنضال القضاة وناديهم العريق دفاعا عن استقلال القضاة والديمقراطية، كجزء من اهتمامي بالشأن العام، في هذه الفترة تعرض قضاة مصر لمذبحة 1969 بعد رفضهم للانضمام للاتحاد الاشتراكي العربي، وتصديهم لنفر قليل منهم انضموا إلي «تنظيم طليعة الاشتراكيين» وهو التنظيم أو الجهاز السري الذي أقيم داخل الحزب الواحد الحاكم في ذلك الوقت «الاتحاد الاشتراكي العربي»، فأصدر رئيس الجمهورية خمسة قرارات جمهورية تم بموجبها حل مجلس إدارة نادي القضاة برئاسة المستشار ممتاز نصار وأمانة المستشار يحيي الرفاعي، وإلغاء مجلس القضاء الأعلي برئاسة رئيس محكمة النقض وإنشاء «المجلس الأعلي للهيئات القضائية» برئاسة رئيس الجمهورية، وعزل 133 قاضيا علي رأسهم ممتاز نصار ويحيي الرفاعي. كان استهداف نادي القضاة وقياداته خطا رئيسيا في سياسات الحكم في العهود المختلفة، لقد نشأ نادي القضاة بمبادرة من القضاة أنفسهم، حين عقد 59 قاضيا بمحكمة استئناف مصر في 10 فبراير 1939 اجتماعا صاغوا فيه القانون الأساسي لنادي القضاة وحددوا هدفه الرئيسي في «توثيق روابط الإخاء والتضامن بين رجال القضاء وتسهيل سبل الاجتماع والتعارف فيما بينهم، بالإضافة إلي دعم استقلال القضاء ورجاله»، وخاض النادي منذ نشأته معارك عديدة من أجل استقلال القضاء وإلغاء المحاكم المختلطة، وإصدار قانون استقلال القضاء الأول رقم 66 في 10 يوليو 1943، ومن أهم معاركه ضد تدخل الحكومة في القضاء، ما حدث عقب حريق القاهرة في 26 يناير 1952، فقد اتهمت الحكومة أحمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي «مصر الفتاة» بالتحريض علي حرق القاهرة، وتم تإحالة القضية إلي دائرة خاصة بمحكمة الجنايات كان رئيسها قد قارب سن المعاش، فسعت الحكومة لرفع سن المعاش إلي 65 عاما ليتمكن رئيس هذه الدائرة من الحكم في القضية، ورفض نادي القضاة رفع سن المعاش، ووجه ممتاز نصار سكرتير النادي آنذاك الدعوة لعقد جمعية عمومية طارئة، قررت بالإجماع رفض قرار رفع السن تمكينا لقاض بعينه من نظر قضية محددة، وأرسل النادي برقيات بهذا المعني للملك ورئيس الوزراء ووزير العدل. وشهد عام 1963 مواجهة بين نادي القضاة ووزير العدل الذي استصدر القانونين رقمي 74 و76 لسنة 1963 بحل مجلسي إدارة نادي قضاة مصر والإسكندرية وجعلهما بالتعيين، وقاطع القضاة الناديين، وتصدي النادي لوزارة العدل التي حاولت ضم القضاة إلي الاتحاد الاشتراكي عام 1966 بالمخالفة للقانون والقواعد القضائية المستقرة والتي تمنع القضاة من الاشتغال بالعمل السياسي الحزبي، وعقب هزيمة 1967 أصدر النادي بيانا حدد فيه أسباب النكسة، وأكد أن إطلاق الحريات والإصلاح السياسي هو السبيل لمواجهة النكسة، وكان هذا البيان ورفض الانضمام لتنظيم طليعة الاشتراكيين وراء مذبحة القضاة. وعند انعقاد مؤتمر العدالة الأول الذي نظمه نادي القضاة في أبريل 1986، وإصدار عدة قرارات تتعلق باستقلال القضاء وكذلك بالحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية - وكان يحيي الرفاعي رئيسا لنادي القضاة والمؤتمر - خاطب الرفاعي الرئيس حسني مبارك مطالبا إياه بإنهاء حالة الطوارئ. في الفترة الثانية والتي تبدأ في نهاية تسعينات القرن الماضي، برز يحيي الرفاعي كأحد أبرز الشخصيات السياسية المهتمة بالديمقراطية والحريات العامة، والتقيت به وعملت معه مباشرة عندما دعت لجنة التنسيق بين النقابات المهنية خلال عقد مؤتمرها حول «الحريات والمجتمع المدني» عام 1994 لصياغة ميثاق وفاق وطني، ودعت الأحزاب والقوي السياسية للمشاركة في الوفاق والوطني، وكانت لجنة الصياغة مشكلة من عدد من الشخصيات العامة ومقررها هو المستشار يحيي الرفاعي، وكنت أمثل حزب التجمع في الاجتماعات الخاصة بالوفاق الوطني، لعب يحيي الرفاعي ود. سعيد النجار دورا مهما للغاية في قضية الوفاق الوطني وفي الإصرار علي أن يعكس الميثاق مباديء الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان والدولة المدنية كما يعرفها العالم، ووقع علي الوثيقة فؤاد سراج الدين «الوفد» وخالد محيي الدين «التجمع» وأبوالعلا ماضي «لجنة التنسيق بين النقابات» وعدد من الشخصيات العامة غير الحزبية يتقدمهم يحيي الرفاعي ود. سعيد النجار ود. ميلاد حنا ود. محمد سليم العوا ونبيل الهلالي، ولكن الوثيقة لم تر النور نتيجة لموقف الإخوان المسلمين «المستشار مأمون الهضيبي» وحزب العمل «عادل حسين». ولا شك أن مواقف يحيي الرفاعي علي مدي تاريخه، كقاضٍ ثم كمحام وأخيرا كشخصية سياسية بارزة منحازة للديمقراطية والعدل، كانت وراء هذا الاحتشاد غير المسبوق من تيارات وقوي وشخصيات مختلفة، حرصت علي المشاركة في العزاء تأكيدا لكل المعاني السامية التي مثلها يحيي الرفاعي طيلة حياته.