في اللحظة التي يتحول مريض السكر لرقم ما في مؤتمر للنخبة الاجتماعية، يفقد حياته،يتحدثون عن مرض السكر، يعددون أسباب الإصابة بين العوامل الوراثية والسمنة وسوء التغذية، والاعتلال الباثولوجي الذي يسبب المضاعفات وغيره، يمكن أن نجد كل الإحصائات المتعلقة بمرض السكر في الدوريات العلمية وصفحات الإنترنت المختلفة ، عدد الإصابات الجديدة سنويا، عدد الإصابات الكلية ونسبة من أصيبوا بالمضاعفات ونوعيتها، كل هذا متوفر بضغطة زر. ما لن تجده في الشبكة العنكبوتية هو معاناة أب فقد وظيفته نتيجة إصابته بالسكر، أو أم لم تستطع إطعام أطفالها نتيجة ضعف رؤيتها أو إصابتها بعدوى في القدم، أو شاب في مقتبل العمر فقد قدمه فلم يستطع الزواج أو العمل! رغم توافر الدواء في المستشفيات الحكومية لمرضى النوع الأول والثاني من السكر، إلا أن العدد المهول ممن تتأثر جودة حياتهم نتيجة المضاعفات التي تصل حد الإعاقة والموت هو عدد ليس بقليل. يمكن لغير المتخصصين إلقاء اللوم على المرضى وحدهم، يصاب مريض السكر بالمضاعفات حين يهمل في مواعيد دوائه "ويقصد هنا بالدواء العلاج الفارموكولوجي أو الحمية الغذائية السليمة" أو لا يقوم بفحوصاته الدورية. كون المريض جاني وضحية في آن واحد لن يفيد احد، من الصحيح جدا أن عدم انتظام مستويات السكر في الدم نتيجة ترك الدواء يسبب المضاعفات، لكننا لم نسأل السؤال المهم، لماذا لا ينتظم المرضى علي الدواء؟، والسؤال الاخر الذي لا يقل أهمية، لماذا لا يقوم المرضى بفحوصاتهم الدورية؟ لكي نكون محددين، المقصود بالمرضى هنا، هم الطبقة الوسطى والدنيا ممن يرتادون منشآت الصحة الحكومية للمتابعة والعلاج وهم بالضرورة غير القادرين على الحصول على التثقيف الصحي أو المشورة الطبية من القطاع الخاص وبالتبعية لا يقدرون أيضا على تحمل نفقات الدواء. من سيسأل تلك الأسئلة؟ يمكن لطبيب الرمد أن يقوم ببحث علمي يستطلع فيه أسباب إصابة مرضى السكر باعتلال الشبكية المتقدم، يمكن كذلك لطبيب الجراحة العامة أن يستقصي الأسباب أو يقوم ببحث كمي عن عدد المرضى الذين يحضرون لغرفة العمليات لبتر أصابع القدم. وحده أخصائي الصحة العامة يستطيع فحص الأسباب بالتفصيل، هل المشكلة هي في صرف الدواء أم الالتزام به؟ ما هي قناعات المريض حول مرضه؟ يحضر مريض السكر للمستشفي كم مرة سنويا ولأي اسباب؟ هل زيارة مريض السكر مجدية ويحصل فيها على المعلومات الكافية والصحيحة عن مرضه؟ هل يعلم المريض أهمية التحاليل الدورية وأنها متاحة ورخيصة الثمن؟ هل أطباء الباطنة الموجودون في المستشفيات العامة وأطباء الأسرة في المراكز المتخصصة لديهم التدريب الكافي؟ هل يوجد أخصائي تغذية علاجية في عيادات السكر لتثقيف الحالات عن النظم الغذائية السليمة؟ هذا فقط هو جزء ضئيل من الأسئلة التي يجب على العاملين في قطاع الطب الوقائي ووزارة الصحة امتلاك إجابات لها، وحدها تلك الإجابات هي ما سيمكننا من تقليل مضاعفات السكر وتحسين جودة حياة مرضاه.
إن امتلاك اجابات، ولو كانت قليلة، سيحرر كرة الثلج، بالإجابات سيتمكن القائمون بالعمل في مجال الصحة العامة من تصميم التدخل المناسب، وتطبيقه وتقييمه ومن ثم إعادة الأسئلة والإجابات. قد تكون زيارات مرضى السكر للعيادات قصيرة جدا لا يستطيع المريض خلالها وصف أعراضه ومن ثم الحصول على الفحوصات المطلوبة او العلاج. قد يكون غياب برنامج لتثقيف المرضى وتتبع مضاعفات مرضى السكر يؤدي إلى جهل المرضى بحدوثها من الأساس أو عدم علمهم بأهمية الفحوصات الدورية ومواعيدها. وسيناريوهات وأسباب متعددة، لنذكر مثالا ما، قد يكون تعقيد الاجراءات في مستشفى ما بين التشخيص المبدئي والعلاج يعوق المرضى ويؤخرهم عن الحصول على العلاج أو حتى يثنيهم كليا عن أخذ الدواء، يمكن هنا تصميم تدخل محلي في المستشفى المذكورة بواسطة لجنة مختصة، بتقليص وتغيير الإجراءت المطلوبة، أو تدخل قومي بتضمين جميع مرضى السكر في قاعدة بيانات خاصة لها متطلبات ورقية مرنة وتستغرق وقتا أقل في تجهيزها وتقديمها والموافقة عليها. إن الصحة العامة والعاملين بها هي جزء لا يتجزء من أي نظام صحي سليم، مدعومة بالبحث العلمي بنوعيه الكيفي والكمي، يمكن لأخصائي الصحة العامة عن طريق سؤال الأسئلة الصحيحة و وتصميم التداخلات المجدية فعل الكثير، للمرضى والأطباء والمجتمع. يمكن لقانون التأمين الصحي الشامل الذي ما زال في طور التطوير والاختبار أن يتضمن تكوينه قطاعا خاصا للصحة العامة، أو تفعيل الاقتراحات القديمة من المختصين ذوي الشأن بإنشاء مجلس أعلى للصحة يهتم بجميع شئون الصحة العامة. نرى أن واجب الدولة ليس علاج مواطنيها فقط، ولكن كما ينص الحق في الصحة وهو الحق الذي تتبناه الأممالمتحدة على أن يتمتع الانسان بحالة رفاهية من الصحة البدنية والنفسية والاجتماعية كاملة، وليس مجرد الخلو من الإعاقة والمرض، ولكي يتأتى للمصريين جميعا الحصول على حالة الرفاهية تلك لابد أن ترفع القطاعات الصحية حجم خدماتها من مجرد العلاج إلى الوقاية والتثقيف الصحي وغيرهم.