زلزالٌ سياسي وجغرافي هزّ المنطقة العربية, منذ شتاء عام 2011 م وصولاً لشتاء 2020, ورغم برودة الأجواء مناخياً, إلا أنها كانت الأكثر سخونة سياسياً على وجه الإطلاق, فقد أزاحت العديد من القيادات والرموز والشخصيات السياسية عن الحكم والمشهد السياسى العربى, فى مشهدٍ درامى لم يكن يتوقعه الكثيرون ولا حتى البعض منهم. بدأت شعلة الانتفاضة الشعبية من دولة تونس, حينما أضرم شاب (البوعزيزى) النيران فى جسده بأحد الميادين فى تونس, فى مشهد هز وجدان الشعب التونسى, بل ودفعه للنزول إلى الشوارع والميادين للتعبير عن غضبه وسخطه تجاه الأوضاع بشكل عام, ونظام بن على بشكل خاص, ومن هنا بدأت الحكاية, فقد انتشر الخبر كالنارِ فى الهشيم, واستطاعت وسائل الإعلام الإليكترونية والوسائط الإليكترونية الجماهيرية, أن تصل إلى العديد والعديد من الشباب العربى, وتم نشر أكبر عدد من الفيديوهات المصورة واللقاءات الحية مع النشطاء والمتظاهرين, وتم بلورة الانتفاضة وكأنها ثورة تحررية ضد نظم قمعية ديكتاتورية فاسدة وعميلة. كانت البداية فى تونس, لكن سرعان ما انتقلت حمى الثورة والانتفاضة إلى مصر, عندما امتدّ الغضب لشوارع العاصمة قاهرة المعز، المدينة الأكبر في المنطقة وعمقها السياسي التاريخي، حيث أطلق على عدوى التظاهرات اسم "الربيع العربي", وخرج مئات الآلاف إلى شوارع مصر للتعبير عن تطلعهم إلى الديمقراطية, ومطالبتهم بتنحي الرئيس الراحل "محمد حسني مبارك", الذي كان رئيساً لمصر منذ عام 1981. سقط شهداء رافعين شعارات, معتقدين أنها ستكون الخلاص من تراكمات عقود من القمع، والاضطهاد، والكرامة لكنها بقيت فقط وقوداً انتخابياً لأحزاب وحكومات فشلت في تحقيق تطلعات الشعب, على الجانب الآخر, تحولت وبسرعة بعض الاتجاهات الدينية (التيارات السلفية, وجماعة الإخوان) المشاركة في الانتفاضة, التي أدمجت الديمقراطية في خطابها, إلى ثوار ومناضلين يبحثون عن الحرية والخروج على الحاكم, بدعوى أنه كافر وعدو لله وللدين, بعد أن كان من المحرمات!! وتم اختطاف الثورة من لحظة توصيفها بأنها معركة النظام، وذلك حين استعانت مختلف التيارات والمجموعات السرية بأدبياتها القديمة في فهم ظاهرة طارئة ومعقدة، فأخرجت تلك الانتفاضة السريعة من واقع الناس ومطالبهم إلى واقع سياسي مأزوم, قائم على الصراع والنفي بين مختلف الخصوم السياسيين. فى نفس السياق, كانت النهاية المأساوية للقذافى فى ليبيا, التى شهدت أحداثاً دموية بين الأطراف القبلية والسياسية, وأصبحت ساحة مفتوحة للحرب بالوكالة بين مختلف القوى الدولية ومعرضاً للسلاح وللعصابات الإجرامية والمجموعات الإرهابية, وحاولت أيضاً جماعة الإخوان بمساعدة أطراف إقليمية ودولية, أن تبسط ذراعيها على المشهد السياسى فى ليبيا, من خلال حكومة الوفاق, التى أدت فى النهاية لاحتلال تركى لأراضيها, ومازالت الأوضاع السياسية غير مستقرة, والليبيون منقسمون على أنفسهم, وماذا بعد؟! لم تكن بلاد الشام بعيدة عن المشهد, ولكن كان المشهد فى سوريا مختلفا تماماً, وكأنها حرب أهلية ليست مجرد انتفاضة أو ثورة, بل كانت المذهبية والعرقية أساس الصراع الدموى فى سوريا على مدار العشر سنوات, ورغم أن الرئيس السورى الدكتور "بشار الأسد", هو الناجى الوحيد من معركة الربيع العربى, نتيجة بقائه خلال تلك السنوات فى سدة الحكم, لكن سوريا التى كانت قبل 2011 لم تعد سوريا 2020, دولة محتلة من إسرائيل وأمريكا وتركيا وايران, بجانب الميليشيات الإرهابية الداعشية التى تتحرك بأريحية فى مختلف بقاع سوريا, وهوت العملة السورية إلى أدنى مستوياتها, وانهار الأمن والاقتصاد والبحث العلمى, وتشردت الأسر وتمزق المجتمع وتغيرت ملامحه جغرافياً واجتماعياً. أما فى اليمن, اعتقد البعض أن بنهاية الرئيس اليمنى الراحل "على عبد الله صالح", سينتهى الأمر, بل كانت البداية, فبعد الثورة فى اليمن وإزالة " صالح" من الحكم ومن المشهد السياسى بضغط كبير من أطراف دولية, وبمساعدة جماعة الإخوان الإرهابية فى اليمن, أصبحت الفوضى تعم أرجاء اليمن, بل وأصبحت مطمعاً من الجميع فى الداخل والخارج, حتى من جيرانها من الدول العربية, وبات الشعب اليمنى ذو الحضارة والتاريخ, شعباً لاجئاً لا يجد قوت يومه, القبائل تتناحر, انقسام الشمال والجنوب, عاصمتين لدولة واحدة, ميليشيات بديلة عن الجيش, اقتتال طائفى وحرب أهلية, اقتصاد منهار, تهاو للعملة الوطنية, انتشار الأوبئة والأمراض وضعف الخدمات الصحية, بلد بلا مستقبل, وماذا بعد؟! بينما في البحرين، الدولة الوحيدة في الخليج التي شهدت احتجاجات شعبية، تمّ قمع الانتفاضة بعنف بدعم من أطراف عربية, وفي المغرب، تمّ احتواء "حركة 20 فبراير" 2011، بإصلاحات تجميلية لم تحقق أمال الشريحة الأكبر فى المغرب. على الجانب الآخر, استغل الجهاديون والمتشددون والإرهابيون الموقف, واستثمروا هذا النزاع والاقتتال والتحارب الدينى والمذهبى والسياسى لمنحى طائفي وقمعي وعسكري، ليستقروا في سوريا وليبيا وبعض الدول في المنطقة بعد خروج العديد منهم من العراق. ومرت سنوات قليلة, ثم بدأ اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية في كل من السودان والجزائروالعراق ولبنان, مثلها كسائر البلدان التى سبقتها, ويمكن القول بأن مصر والجزائر هما الدولتان الوحيدتان اللتان استطاعتا أن يحافظا على توازنهما فى المنطقة العربية, بدلاً من السقوط, فمصر نجت من معركة حتمية وهى معركة الحرب الأهلية بين جماعة الإخوان والمعارضين لها من جهة, وبين المؤسسة العسكرية والأمنية والعناصر الإرهابية من جهة أخرى, أما الجزائر فهى على صفيح ساخن, ويرى معظم المراقبين وأغلب المحللين أن هناك احتمالات, لعودة الانتفاضات الشعبية مرة أخرى فى الجزائر, كموجة ثانية. ويعتقد أغلب المراقبين والباحثين أن الأمر لم ينتهِ بعد ولم يتوقف, بل هى مجرد فترة امتصاص ستؤدى إلى موجة ثالثة من الانتفاضات, كرد فعل لعملية الضغط السياسى الشعبى, فالسلطة المجتمعية فى النهاية تطغى على السلطة السياسية, خاصةً أن العالم بشكل عام والدول العربية بشكل خاص, يمر بأزمة عالمية وهى أزمة فيروس كورونا, الذى بالتبعية كان له أثر كبير على الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية والسياسية أيضاً. وأن شعوب المنطقة وضعت معياراً جديداً للسياسة والحوكمة التي تطالب بها, ومنذ ذلك الحين، تقاس كل السياسات بحسب تلك المطالب, وعليه فأي دولة لا تدرك هذه الحقيقة الجديدة يكون مصيرها الدخول في مواجهة, والمواجهة تكلفتها باهظة للغاية. وبعد مرور 10 سنوات على الانتفاضة الشعبية العربية, أو ما يسمى ب " ثورات الربيع العربى", لا تزال البطالة والتهميش والتضخم وهي الملفات التي أوقدت فتيل الاحتجاجات في العام العربى 2011، على حالها، فيما الطبقة السياسية في البلاد تنخرها التجاذبات السياسية الحادة, ولازالت جماعات الإسلام السياسى على قيد البقاء والنجاة والحياة, ولازالت حرية الرأى والتعبير مهمشة بل وممنوعة فى أغلب الأحيان, ولازال الحديث حول الاختيار ما بين الأنظمة الديكتاتورية, أو الجماعات الدينية المتطرفة, وكأنه لا بديل ثالث لكليهما فى الوطن العربى, فهل كل تلك المؤشرات جميعها تؤول فى النهاية, إلى ارتداد الموجة الأشد عنفاً فى تاريخ الانتفاضات الشعبية؟!