جاكرتا مدينة جميلة خضراء دائمة الخضرة إذ ينهمر عليها المطر كل يوم تقريبا في مناخ استوائي حر ورطب طيلة الصيف والربيع، يمكنك أن تستمتع بها كلما توغلت فيها سواء في أحيائها القديمة أو متاحفها أو في الأحياء الجديدة حيث طبقة وسطي تعيش حياة ميسورة وأن كانت قاعدتها محدودة كما يقول محللون فما يزال البلد يتكون أساسا من فلاحين فقراء شرط الاستمتاع بها أن تغمض عينيك عن مشاهد البؤس التي تأبي إلا أن تعلن عن نفسها حتي في الطريق من المطار وإليه. وإذ يمكنك بطء المرور من التأمل حيث تتراص أكواخ الصفيح علي الجانبين لمسافة طويلة ، وبعدها بل بجوارها مباشرة تنتصب البنايات الشاهقة التي تذكرك بنيويورك وسان فرانسيسكو وشيكاغو. وحتي إذا أغمضت عينيك عن هذه المشاهد فلن تستطيع أن تنسي وجوه عشرات الفتيات الصغيرات المذعورات سيئات التغذية القادمات من قراهن في أندونيسيا إلي الخليج ومنه إلي بلدان أخري للعمل كخادمات، يسوقهن كالسائمة رجل يبدو أنه مقاول الأنفار الذي تسلمهن وذهب ليسلمهن إلي مصائر غامضة. وقبل أن يفتتح الرئيس «سوسيلو يودهويونو» المؤتمر السادس للحركة العالمية من أجل الديمقراطية وشعاره الديمقراطية عبر الثقافات كان قد أمر باتخاذ اجراءات صارمة لتطهير مصلحة الضرائب والشرطة والمؤسسة القضائية من الفساد0 إذ كان انشغال أندونيسيا الرئيسي سياسيا ومايزال هو انفجار فضيحة فساد كبيرة تورط فيها عاملون من الضرائب والشرطة والقضاء واتهم بعضهم بالاختلاس والبعض الآخر بغسيل أموال وتقديم رشاوي لقضاة، ومعهم بعض كبار الموظفين لتسهيل العمليات القذرة التي قاموا بها وصولا إلي نقل عدد من كبار العاملين في البوليس والنيابة العامة من وظائفهم لأنهم لم يتعاونوا مع المافيا0 وترددت أصداء التحقيقات في مؤتمر الديمقراطية حتي أن الحكومة نظمت زيارة لبعض اعضاء الوفود إلي لجنة مكافحة الفساد للتعرف علي عملها وعلي القضايا التي تنشغل بها بعد الاطاحة بكثير من العاملين في كل من الشرطة والنيابة والقضاء. ورغم ان اندونيسيا أخذت تتعافي نسبيا من الآثار المدمرة للأزمة المالية للنمور الأسيوية التي انفجرت عام 1998 بفعل سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي فإن غالبية سكان أندونيسيا مايزالون يعيشون تحت خط الفقر ويتظاهر الآلاف منهم كل يوم احتجاجا علي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. مضمون الديمقراطية وهي الأوضاع التي دعت مشاركين في مؤتمر الديمقراطية إلي التساؤل حول أي محتوي اجتماعي اقتصادي تحمله الديمقراطية السياسية في أندونيسيا بعد أن اعتبرتها منظمة بيت الحرية الأمريكية واحدة من البلدان التي جري وصفها بالحرة بعد مسح أجرته المنظمة لمئات البلدان، وبالمناسبة لم تتضمن النتائج بلدا عربيا واحدا لتضعه في قائمة البلدان «الحرة» حسب وصف المنظمة. وعلي كل حال فإن قصة الديمقراطية في أندونيسيا التي بدأت بعد الاطاحة بنظام سوهارتو نتيجة للفساد الشامل والحكم التسلطي عام 1999 قصة تستحق أن تحكي ربما في رسالة قادمة. الشيء المؤكد الآن هو أن تجربة الديمقراطية والحرية في أندونيسيا ارتبطت وثيقا بفلسفة الليبرالية الجديدة وبشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والهيمنة الأمريكية، حيث سياسات حرية السوق وتقليص دور الدولة، والانكماش الاقتصادي. وانهارت تجربة الليبرالية الجديدة مع الأزمة الأسيوية وفي القلب منها اندونيسيا عام 1997 حيث ظهرت علي السطح حماقات الليبرالية الجديدة كما يصفها الباحث الاقتصادي «والدن بيلو» «ولم يكن بالامكان اخفاء الحقيقة القائلة بأن اطلاق رءوس الأموال المضاربة والغاء القيود عليها استجابة لضغط صندوق النقد الدولي هو الذي تسبب في انهيار شرق آسيا، وقام صندوق النقد الدولي بفرض برامج متشددة علي الاقتصادات الأسيوية في أعقاب الأزمة أسرعت كلها بوتيرة الانكماش الاقتصادي»0 وهكذا اتسعت قاعدة الفقر والبطالة بينما جري رصد بلايين الدولارات لا كحزمة انقاذ للاقتصادات المنهارة ولكن لإنقاذ البنوك الأجنبية والمستثمرين المضاربين علي حساب شعب يتعذب، وتفاقم الركود واتسعت بشكل مذهل الفوارق بين الطبقات وأشكال اللامساواة والبؤس. أطفال سعداء وحين تساءلنا عن سر مئات الأطفال الذين كانوا يلبسون ملابس فاخرة ويمرحون يوم الأحد في جنبات الفندق الذي نزلنا فيه ، قال لنا العاملون إن اغنياء «جاكرتا» ابتدعوا تقليدا هو الذهاب إلي الفنادق وقضاء يوم العطلة بكامله هناك وطبعا بأسعار باهظة. وخصص الفندق ألعابا متنوعة للاطفال في عدد من المساحات الفارغة وحول حمام السباحة، ولم يكن بوسعي أن أشاهد هذا البذخ دون مقارنته بالفقر العام. أما عن سياسة أندونيسيا حيال منطقتنا واذ من المعروف أنها مازالت ترفض الاعتراف باسرائيل فقد عرفنا عبر بعض المصادر الدبلوماسية أن هناك تحركا أمريكيا نشيطا يحث الحكومة علي الاعتراف بإسرائيل وتبادل السفراء معها خاصة أن السياسة الخارجية لجاكرتا تتطلع للعب دور في مفاوضات السلام التي من المفترض أن ترعاها الإدارة الأمريكية بين الفلسطينيين والإسرائيليين ولكننا لم نسمع حتي عن بوادر حركة عربية في الاطار الدبلوماسي لمحاولة اثناء «جاكرتا» عن هذه الخطوة علي اعتبار أن عدم اعتراف «اندونيسيا» بإسرائيل كأكبر بلد به سكان مسلمون 230 مليون نسمة و90% منهم مسلمون، ويشكل في حد ذاته ضغطا هائلا علي الدولة الصهيوينة للقبول بحل عادل قائم علي الشرعية الدولية للقضية الفلسطينية، وهو ضغط من أجل السلام أكبر كثيرا من مجرد مشاركة أندونيسيا في عملية السلام كبلد ضمن بلدان أخري كثيرة قد ينجح دورها وقد يفشل، وربما سوف يكون هذا الموضوع مثار جدل في الانتخابات العامة القادمة في اندونيسيا عام 02014 قبل أكثر من عشرين عاما حكي لي وزير خارجية مصر السابق المرحوم محمد حسن الزيات واقعة لقاء له مع هنري كيسنجر وزير خارجية أمريكا آنذاك حين سأله الزيات ماذا ستفعل مع الملف الفلسطيني ، فرد كيسنجر قائلا : سوف استطلع رأي العرب أولا. وبعد أسبوعين التقاه الزيات مجددا وسأله ماذا حدث مع العرب. فرد كيسنجر : قائلا - لم أجد هناك عربا.