ربما لم يكن الرئيس الروسى بوريس يلتسين عندما، كان يهدم الاتحاد السوفيتى فى غابة بيلوفيجسكى بجمهورية بيلوروسيا، أن جمهوريات وسط آسيا التى لم يكن مهتماً بها وأراد عدم ضمها لرابطة الدول المستقلة أو (الاتحاد الشرق سلافى) التى كان منوط بها أن تحل مكان الاتحاد السوفيتى وكان يضم الدول السلافية الثلاث روسياوأوكرانياوبيلوروسيا وقال حينها، إنه لم يعد لدى روسيا ما تطعم هذه الجمهوريات به، وإن كان الرئيس يلتسين استثنى من دول وسط آسيا جمهورية كازاخستان، التى كان يمثل السكان السلافيين حوالى 50% من تعداد سكانها بالإضافة لكون كازاخستان من الدول الأربع التى تتمركز فيها الأسلحة النووية السوفيتية بالإضافة لأوكرانياوبيلوروسيا وروسيا. فى الوقت الذى كانت تصر فيه روسيا على أنها لن تشترك فى أى اتحاد بعد الاتحاد السوفيتى دون أوكرانيا، لأسباب عديدة ليس أولها تمركز أسطول البحر الأسود فى القرم، وليس أخرها أسباب اقتصادية، مروراً بالروابط الاجتماعية والأصول العرقية، إذا بأوكرانيا تستغل استقلالها بشكل ضار لروسيا أكثر مما كانت تتوقع موسكو بكثير، خاصة بعد استعادة روسيا للقرم ومطالبة شرق البلاد بالحكم الذاتى بمساعدة روسية. استوعبت روسيا درس أوكرانيا وهى تحاول الآن الحفاظ على دول وسط آسيا خاصرتها الجنوبية، وحائط الصد ضد التطرف الدينى وخاصة الإسلامى الذى قد يهب على روسيا من أفغانستان، خاصة بعد تفاوض الولاياتالمتحدة مع حركة طالبان واعتزامها سحب قواتها. وما يدل على الاهتمام الروسى بوسط آسيا، كانت زيارة رئيس جمهورية طاجيكستان إمام على رحمون التى قام بها مؤخراً لموسكو ولقائه بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والحميمية التى استقبل بها على مدى تمسك روسيا بجمهوريات وسط آسيا، وقول السكرتير الصحفى للرئيس بوتين بيسكوف، أن بلاده تراهن على تعاون وشراكة طويلة المدى مع طاجيكستان، مؤكداً أن التعاون مع دوشنبية (عاصمة طاجيكستان) فى غاية الأهمية بالنسبة لروسيا وأن الرئيس بوتين يعطيها أهمية كبيرة ويعتبرها دولة محورية لروسيا. لكن رغم الترحيب الروسى بالرئيس الطاجيكى، فإن هذا الأخير، أثار موضوع ظروف المهاجرين الطاجيك أو العمالة الطاجيكية فى روسيا كشرط لأى مشروع تحالف مع روسيا، لكن الذى لا شك فيه تعتبر زيارة رئيس طاجيكستان هامة جداً بالنسبة لروسيا، التى تراهن بشدة على جمهوريات وسط آسيا، خاصة على خلفية العلاقة المتوترة مع أوكرانيا ومحاولات مولدافيا الانطلاق تجاه رومانيا والاتحاد الأوروبى، والعلاقات المتذبذبة مع بيلوروسيا، التى بعد الخلاف مع أوكرانيا بدأت تجد فى نفسها البديل الوحيد لروسيا فى الجزء الأوروبى من الاتحاد السوفيتى السابق، تبدو علاقات روسيا مع طاجيكستان ناجحة إلى حد كبير. القلق الروسى ناجم عن تغيرات بدأت تهب على جمهوريات وسط آسيا، ففى كازاخستان استقال الرئيس نورسلطان نازاربايف أحد ركائز استقرار العلاقات مع روسيا، تاركاً السلطة لرئيس مجلس الشيوخ فى الجمهورية قاسم – جومرات توكايف، الذى زار موسكو، وقام بنفس الشيء رئيس أوزبيكستان شوكت ميرزايف، وتعتبر أوزبيكستان أكبر شريك لكازاخستان، وهما تعتبران الدولتين الأهم فى منطقة وسط آسيا، وهما دولتان يحكمهما قادة أقوياء، سواء من استقال أو من رحل كريموف. تعتبر دول وسط آسيا من الدول الناهضة اقتصادياً، وهى تطور علاقاتها بقوة بكل من الصين والاتحاد الأوروبى وهو ما يمثل خطورة كبيرة على علاقات هذه الدول بروسيا، فعلى سبيل المثال قام رئيس جمهورية قيرجيزستان سووبرون جيينبيكوف بزيارة رسمية لألمانيا، وأكد خلال الزيارة أن العلاقات بين البلدين تتطور بسرعة، كما أن هناك نجاحات كبيرة تحققت فى التعاون فى مجالات هامة – كانت تعتمد فيها الجمهورية الآسيوية على روسيا – مثل التعاون فى مجال التكنولوجيا والاقتصاد، بينما أعلنت أنجيلا ميركل عن رغبتها فى دعم جمهورية قيرجيزستان. والضربة الكبرى لروسيا كانت فى رفض بيلوروسيا وكازاخستان شراء سلع مكتوب عليها «صنعت فى القرم»، معللين ذلك بالوضع الجيوسياسى الدولى المعقد، ما يعنى أنهم يخشون إغضاب أوكرانيا عدو روسيا اللدود فى الفضاء السوفيتى السابق ومن ثم الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى دفع رئيس غرفة التجارة والصناعة الروسى سيرجى كاتيرين للإعراب عن أسفه، مشيراً إلى أن منتجات القرم ستضطر لأن تسجل فى مناطق روسية أخرى لكى يمكن تصديرها للخارج. من الأمور الأخرى المزعجة لروسيا، عدم رغبة دول وسط آسيوية أخرى فى الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادى الأوروآسيوى، مثل تركنستان وأوزبيكستان وطاجيكستان، وهو الأمر الذى فسره بعض المراقبين على أن هذه الدول تريد الاحتفاظ بحرية فى التعامل مع الولاياتالمتحدة أو أوروبا، أى أنهم يريدون توسيع مجال المناورة فى سياساتهم الخارجية، كما أن هذه الدول ذات الأنظمة المحافظة تتجنب بشدة أى صدام مع أوروبا أو الغرب، ويحاولون بقدر المستطاع تجنب أى عقوبات من الممكن أن يفرضها الغرب عليهم على غرار تلك المفروضة على روسيا، ولذلك فهم لم يعترفوا بالقرم حتى الآن كجزء من روسيا، كما أنهم متحفظون جداً فيما يتعلق بالأحداث فى أوكرانيا، وربما هذه التحفظات هى ما يعيق تكامل هذه الدول فى الاتحاد الاقتصادى الأوروآسيوى. فى نفس الوقت ليس لدى موسكو ما تقدمه من إغراءات لهذه الدول، وكلنا يرى الخلافات بين بيلوروسيا وروسيا حول أسعار الغاز الروسى والمحروقات. دول وسط آسيا تناور وتحاول البقاء على قيد الحياة، فهى بالنسبة لروسيا حديقة خلفية ومصد ضد التطرف الإسلامى الذى قد يأتى من أفغانستان مستقبلاً فيكون له تأثير مدمر على مسلمى روسيا، كما أن جمهوريات آسيا مصدر للعمالة الرخيصة فى السوق الروسى. من ناحية أخرى الصين التى تعاظم نفوذها فى جمهوريات وسط آسيا خاصة فى كازاخستان وقيرجيزستان، ورغم علاقة التحالف بين روسياوالصين، غير أن موسكو تخشى كذلك سيطرة صينية على هذه الدول. ثم تأتى الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى وطريق الحرير، والذى سيربط هذه الدول بالصين وبأوروبا مما سيكون له تأثير كبير على العلاقات مع موسكو. ويلاحظ أن الولاياتالمتحدة تحاول توسيع جبهة التحديات التى تواجه روسيا فى إطار سياسة العداء التى تنتهجها تجاه روسيا وشعبها، وجمهوريات وسط آسيا تحتاج إلى الدعم على الدوام، ليس اعتباطاً قال يلتسين فى اللحظات الأخيرة من حياة الاتحاد السوفيتى، إنهم (جمهوريات وسط آسيا) يريدون من يطعمهم وليس لدينا ما نعطيه لهم. أشد ما تخشاه روسيا هو فتح جبهة جديدة للصراع مع الولاياتالمتحدة على النفوذ فى وسط آسيا، فيما تخشى الصين وفى إطار صراعها مع واشنطن، أن تسعى الأخيرة، لضم بعض دول وسط آسيا لحلف الناتو، حيث ستكون حينها محاصرة من القواعد الأمريكية فى الشرق (اليابان وكوريا الجنوبية) ومن الغرب وسط آسيا. د. نبيل رشوان