أسفرت الجولة الأولى الانتخابات الأوكرانية، التى أجريت يوم 31 مارس الماضى عن نتائج غريبة، فبعد أن كانت استطلاعات الرأى تشير إلى أن أن يوليا تيموشينكو أمبراطورة الغاز وزعيمة حزب الوطن الأوكرانى هى المتفوقة فى كافة استطلاعات الرأى وبأن الإعادة ستكون بينها وبين الرئيس الأوكرانى الحالى بيترو بوروشينكو، أتت الرياح بما لا تشتهى السفن وتفوق عليها وعلى بوشينكو، أحد المهرجين الأوكران والممثل الكوميدى فلاديمير زلينيسكى، المدعوم من أحد رجال الأعمال ويدعى كولمينسكى ويقيم فى خارج البلاد، فقد تفوق الكوميديان على بائع الشيكولاتة بنسبة كبيرة. ففى الوقت الذى حصل فيه الرئيس الأوكرانى على ما يقرب من 17%، حصل الكوميديان على أكثر من 30%. اختيارات مرة وبينما كان عدد المرشحين 39 مرشحاً وهو أكبر عدد من المرشحين على مدى تاريخ أوكرانيا منذ أن اصبحت دولة مستقلة عقب انهيار الاتحاد السوفيتى، وجد الشعب الأوكرانى نفسه أمام اختيارين أحلاهما مر، الرئيس الأوكرانى الحالى جاء على خلفية مظاهرات عارمة أطاحت بالرئيس فيكتور يانوكوفيتش، وبسبب رفض هذا الأخير الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، ومن ثم حلف الناتو بناء على تعليمات من موسكو، اندلعت احداث عنف انتهت بهروب يانوكوفيتش إلى خارج البلاد، وجاء بترو بوروشينكو رئيساً للبلاد وعندما هم هذا الأخير بالانضمام للاتحاد الأوروبى ثم الناتو، أى تنفيذ المطالب التى أطاحت بسلفه، فوجئ بأن روسيا تدافع عن مصالحها هذه المرة بشكل عنيف، فأقدمت على استعادة القرم، كأرض روسية منذ القدم، فلم تتصور روسيا أن تأتى أساطيل الناتو وتتمركز فى ميناء سيفاستوبل بالقرم، مقر ومستقر أسطول البحر الأسود الروسى منذ عهد إيكاتيرينا الثانية قيصرة روسيا. وزيادة فى التعنت قامت روسيا بتشجيع سكان منطقة الدنباس (دنيتسك ولوجانسك) فى شرق البلاد على التمرد على الحكومة المركزية والمطالبة بحكم ذاتى واسع الصلاحيات، وهو الأمر الذى ترفضه أوكرانيا لأنها تدرك أن هذا سينتشر فى بقية المناطق المتحدثة بالروسية، وهو ما يعنى الاتجاه إلى كيان فيدرالى أو تقسيم البلاد بشكل نهائى. خاصة أن غرب أوكرانيا المتحمس للاتحاد الأوروبى والناتو لا يطيق صبراً للانضمام للاتحاد الأوروبى أو فى أسوأ الأحوال الانضمام إلى بولندا، حيث كان جزءًا منها قبل الحرب العالمية الثانية، وتم اقتطاعه منها، وبولندا نفسها لا تخفى أطماعها فى هذه المنطقة. النزاع على القرم أما المرشح الثانى فلاديمير زلينسكى، فهو فى الأصل كان أحد أبطال البرامج الفكاهية، وتحول إلى التمثيل الكوميدى، ولا يثق الكثيرون من الشعب الأوكرانى فيه كرجل دولة ولكنهم يقولون «إنه نوع من التغيير» ويتساءلون مستنكرين، وماذا فعل السياسيون، لنجرب الممثلين. لكن الأمر على أرض الواقع ليس كذلك فأمام أوكرانيا تحديات كبيرة ليس أخرها الفساد المستشرى، شأنها فى ذلك شأن كثير من الدول، كما أن النزاع على القرم والحرب الدائرة فى شرق أوكرانيا، واحتمالية التفاوض مع الدب الروسى، مع الخبرة السياسية العريضة للرئيس بوتين، لابد أنها سوف تلعب دوراً مهماً فى اختيارات الشعب أمام صناديق الاقتراع. الانفصال النهائي على أى حال دعا الكوميديان المرشح المنافس والرئيس الحالى إلى مناظرة انتخابية، على أن يتم إجراؤها فى أكبر ملعب للكرة فى قلب العاصمة كييف وهو الاستاد الأوليمبى الذى يسع 70 ألف متفرج، الرئيس الأوكرانى بوروشينكو وافق على ذلك، فهل تكسب الخبرة السياسية الشباب والفكاهة هذا ما ينتظره الشعب الأوكرانى. ويضرب بعض السياسيين مثلاً بالانتخابات الروسية عام 1996، عندما كانت شعبية الرئيس يلتسين فى الحضيض، لكنه فاز بفضل حملة دعاية مكثفة سانده فيها رجال أعمال، وكما أن منافس يلتسين حينها كان أمين عام الحزب الشيوعى الروسى جينادى زوجانوف، وفى ذلك الوقت غض الغرب الطرف عن مخالفات وتزوير كثيرة، وللحقيقة لم يكن الشيوعيون يرغبون فى حكم روسيا بمشاكلها وإصلاحاتها التى عانى منها الشعب الروسى، وكانوا يتوقعون أن تسقط روسيا فى أحضانهم نتيجة معاناة الشعب من الإصلاحات الاقتصادية. لكن فى أوكرانيا الوضع مختلف، وقد تأتى الانتخابات بجيل جديد ممثلاً بالكوميديان، يعمق عملية انهيار الاتحاد السوفيتى بالنسبة لروسيا على الأقل، فانهيار الاتحاد السوفيتى بالنسبة لروسيا هو انفصال أوكرانيا النهائى. جولة الإعادة على أى حال يراهن الكثيرون فى أوكرانيا على جيل جديد من السياسيين، متمثل فى زلينسكى، وفى نفس الوقت يرون فى الرئيس الحالى الخبرة السياسية، ويرون فيه القادر على المواجهة مع روسيا، والبعض يعلق عليه الآمال لاستعادة القرم وإقرار السلام فى منطقة الدنباس بشرق البلاد. من ناحية أخرى وضعت الانتخابات الأوكرانية روسيا فى موقف صعب، فمن ناحية أتت إلى جولة الإعادة بشخص تعرفه جيداً هو الرئيس الحالى بوروشينكو، الذى يتعامل مع روسيا سواء من خلال تصدير منتجاته إليها أو من خلال أنه عاش الأزمات بين البلدين الجارين، بصرف النظر عن حل تلك الأزمات من عدمه، وممثل قد يكون معروفاً فى أوكرانيا، لكنه كسياسى غير معروف على الإطلاق، وهو مثل الصندوق الأسود بالنسبة لروسيا سيكون عليها تفسير وتخمين ما يدور فى رأسه، وإن كان كلاهما يؤمن بانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو وهذا يجعل المرشحين سواء بسواء عند روسيا. سلخ أوكرانيا فى تقدير الكثير من الخبراء أن ما يحدث بين روسياوأوكرانيا بصرف النظر عن الانتخابات، وغيرها من القضايا العالقة بينهما أو بين روسيا والغرب هو عبارة عن عملية فصل وسلخ أوكرانيا عن روسيا بأى شكل وبأى ثمن بصرف النظر عن الوقت وعن الأموال التى ستدفع سواء من روسيا للحفاظ على الحبل السُرى الذى يربطها بأوكرانيا، أو من الغرب الذى يسعى لقطع كل سبل الاتصال بين الدولتين. ويكفى أن أقول إن روسيا رفضت أى اتحاد أو تكتل مرحلى حتى، بعد انهيار الاتحاد السوفيتى بدون أوكرانيا، لأنها تدرك أهمية أوكرانيا من الناحية الاستراتيجية. من هنا علينا أن ندرك بأن الانتخابات الأوكرانية لن تجرى بعيداً عن أعين روسيا، التى كما يرى المراقبون من ناحية تريد الرئيس الحالى لما له من خبرة، وعلى دراية بالمشاكل العالقة، ومن ناحية أخرى تريد الكوميديان، الذى سيحتاج لبعض الوقت لكى يكتسب الخبرة والمعرفة، وتكون روسيا قد تمكنت بشكل أكبر من فرض أمر واقع جديد على أوكرانيا، مع العلم أن الكوميديان ليس رجلاً متعصباً وتفوق عليه الرئيس الحالى فى غرب البلاد، حيث القوميين الأوكران. نحن فى انتظار المناظرة وما ستسفر عنه، وفى انتظار الانتخابات يوم 21 أبريل الجارى. بقى أن نقول، الغرب يؤيد بوروشينكو الذى يعرفه وبرز هذا من خلال تصريحات بعض المسئولين الغربيين، خاصة بعد أن استقدم قوات حلف الناتو إلى البحر الأسود لتضييق الخناق على روسيا وجعل استعادتها للقرم غير ذى فائدة كبيرة. الانتخابات فى أوكرانيا ليست ببعيدة عن لعبة السياسة الدولية بمفهومها التكتيكى لاكتساب مساحات جديدة قريبة من قلب موسكو لتضييق الخناق عليها بالنسبة للغرب، وبالنسبة لروسيا لاستعادة مساحات فقدتها بعد انهيار الإمبراطورية السوفيتية، معركة أوكرانيا بين روسيا والغرب مستمرة، دون استخدام السلاح، حتى الآن. د. نبيل رشوان