أخيرا ظهر مفكر وفيلسوف على شاشة مصرية، وعلي كثرة القنوات الخاصة فإن القناة المصرية الاولي هي من فعلتها من خلال برنامجها المسائي «مصر النهاردة» الذي يتناوب على تقديمه كل من خيري رمضان ورشا نبيل، وهما إعلاميان مجتهدانً مثقفان، ويبذلان جهدا حقيقيا فى التحضير لعملهما، وفِي الحلقة التي قدمها خيري رمضان مساء الأحد الماضي 22 يوليو مع المفكر والفليسوف مراد وهبة كان الاستعداد واضحا من مقدم البرنامج، وكانت الأسئلة مصاغة بأسلوب يفهمه المشاهد العادى، وايضا نقل خيري لضيفه ما يقال عن الفلسفة من مقولات شعبية، بعضها موغل فى القدم، وهو ما نقل للضيف الكبير جوا من المودة جعله يبادل مضيفه حفاوته بحفاوة مقابلة فى الرد على الأسئلة وتفنيد الاتهامات الموجهة لعلماء الفلسفة على مدي العصور، وفِي كل العالم وليس مصر فقط، بل ان مساحة الحوار اتسعت ليحكي الضيف بحرية عما حدث له فى الجامعة المصرية حين منع من التدريس وهو الاستاذ بكلية التربية لمدة عشرين عاما، لسيطرة الاخوان على التعليم، وتأكيد نظرية السمع والطاعة بدلا من الفهم والسؤال. وقال ردا على سؤال حول كلمة الفلسفة، ولماذا هي كلمة مفزعة بالنسبة لنا فى عالمنا العربي ان السبب يعود الي التاريخ فى القرن الرابع الميلادي حين كان الفيلسوف الكبير سقراط يحفز الناس فى جلساته على «التفلسف» اي مواجهة الفكر السقيم والوصول إلى الفكر السليم عبر الحوار، وكانت فكرته وقتها ان الحوار مع الجماهير قادر على إخراج الفكر السليم والمناسب، واستبعاد الفكر المريض، لكن هذا لم يرض الحكام وقتها فى اليونان، وطلبوا منه أن يتفلسف على مزاجه.بينه وبين نفسه فقط. ولكن عليه ان يبتعد عن الجماهير، وإلا سوف يتعرض للمساءلة القانونية والسياسية!. وروي أيضا قصة الفيلسوف الفرنسي الشهير «كانت»، وكان يعيش فى زمن تنويري «القرن 18»، حيث مارس حريته فى الدعوة لعلم الفلسفة وتأليف الكتب عنها معتمدا فقط على أفكاره وحدها، ولكنه حين قرر تأليف كتاب عن الدين جاءه خطاب من الملك طالبا منه التوقف عن الكتابة. وكان رد «كانت» عليه ان شرح له منهجه وملخصه ان الوضع القائم مزعج للبشرية ولابد ان يتغير كلما حدثت تطورات جديدة، فهذه التطورات تحدث أزمة فى الأوضاع السائدة، ولكي تحل الأزمة لابد من وجود تصور لرؤية مختلفة للمستقبل،لإزالة الوضع المتأزم «القائم» وفرض وضع قادم جديد وهكذا. وأكد ضيف البرنامج ان الفلاسفة هم من يقومون بذلك وليس السياسيون. قصة فيلسوف الغبرا لماذا يعادي التراث الشعبي المصري الفلاسفة، ولماذا يقال على من يريد تقديم وجهة نظر مختلفة أنه «فيلسوف الغبرة» وانه غير خارج عن المنطق العام، وربما غير مهذب. هذه الأسئلة وغيرها فسرها الفيلسوف ضيف البرنامج بتراث طويل ممتد أوصل العقل المصري الي الاعتقاد بأنه بمجرد الاقتناع بفكرة ما فإنه قد وصل إلى الحقيقة المطلقة، والتمسك بما يقتنع به وهو عكس قوانين الحياة التي تؤكد دوما على نسبية الافكار، وبالتالي إمكانية تغيرها، «وبالتالي يختفى التعصب، لأن نظرية السمع والطاعة تعتمد على الاعتقاد فى الحقيقة المطلقة». ويعود مراد وهبة لسؤال البرنامج الاساسي: كيف نبني عقلا جديدا؟ مؤكدا ان الدين ثابت والعقل الانساني محدود والفلسفة والفكر متغيران، مسترشدا ببعض من أقوال الفيلسوف العربي الكبير ابن رشد، أكبر فيلسوف واجه محاولات مفكري التطرف، ويؤكد على ان حصار الفلسفة ومفكريها فى مصر ساهم فى القضاء على قامات فكرية مهمة قبل شموخها مثل الشيخ على عبد الرازق مؤلف كتاب «الاسلام واصول الحكم» عام 1925 عقب إلغاء الخلافة الاسلامية فى تركياعام 1924 وايضا طه حسين مؤلف كتاب «الشعر الجاهلي» ومصطفى فهمي صاحب كتاب «حال المرأة فى الاسلام» والذي منع من تدريس الفلسفة بعد حصوله على الدكتوراه من باريس، بالتالي- يؤكد د. مراد وهبة لمحاوره- لم أَجِد غير أفكارابن رشد للخلاص من أفكار ابن تيمية مؤكدا انه منذ دخوله كلية التربية كأستاذ منذ ستة عقود كاملة «عام 1958» وهو فى صراع مع دعاة التطرف الذين حاولوا فصله من عمله مرتين «أنسي الجدود العقل المصري ينتظر هل لم تنتبه ثورة يوليو 1952 لهذا وهي التي رفعت لواء التعليم ضمن أهدافها الاولي». الإجابة لدي مراد وهبة ان ناصر لم يكن متشككا فى الفكر الديني للاخوان، ولكنه كان يشك فى أهدافهم السياسية فقط،، وبالتالي فقد قال للهضيبي مرشد الاخوان بعد نجاح الثورة انه سوف ينفذ مبادئ الاخوان فى التعليم الي ان اكتشف الكارثة عام 1970 بعد ثمانية عشر عاما من الثورة. ويعود بِنَا الي الخلف كثيرا ليؤكد ان الحضارة المصرية نالها الكثير من الوهن، بل ان جهاز المناعة المصري انتهي من ايام الجدود الفراعنة لان حضارتهم اعتمدت على أسطورة عودة الروح «التحنيط»، كما ان علوم الطب والهندسة التي قدماها للحضارة اعتمدت على التجارب الطبيعية وليس النظريات والبراهين، وبالتالي، لم تترك أثرا يفيد البشرية بعدها كما فعل علماء الغرب حين لم يجدوا نظريات وبراهين فقاموا بوضعها، وتقدمت حضارة الانسان بعدها. أخيرا يطرح د. مراد على خيري رمضان رؤيته للحل. ولبناء العقل المصري وهو الاعلام، والقنوات الفضائية تحديدا التي يتفاعل معها الملايين من المشاهدين وعليها ان يكون مسئولة عن التغيير الثقافى والفكرى، اما الطريقة فى رأيه فهي ان تقوم هذه القنوات بعمل صدمات لجمهورها باستدعاء المفكرين ومحاورتهم وافراز ما يمكن إفرازه منهم، لأن مصطلح الرئيس السيسي الذي قاله تحديدا هو: بناء الانسان المصري يعني بناء العقل المصرى.