يرجع العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا إلى أزمان بعيدة جدا، فمنذ العصر الحجرى، مرورا بالبرونزى، ثم عصر الحديد، كان الإنسان يتدخل بشكل دائم لتطوير الأدوات التى يستخدمها، ويتسخدم تقنيات معينة لتطويع تلك الأدوات لتتناسب مع استخداماته. ونفس الحال ينطبق على الحضارات العظمى فى الكون، كالحضارة الفرعونية، التى استطاعت أن تتوصل لتقنيات خاصة مكنتها من بناء الأهرامات، والمسلات، والمعابد الضخمة المحسوب كل شىء فيها بدقة علمية متناهية، تؤكد أن العلوم، والتكنولوجيا كانا يحتلان مكانة بارزة فى حياة الإنسان، ولكن ليس بالشكل الذى نعرفه اليوم. التعهيد كانت الثورة الصناعية فى أوروبا، بداية معرفتنا بالمفهوم الحديث للتكنولوجيا، حيث بدأ الإنسان فى الاعتماد على التكنولوجيا للقيام ببعض الأعمال التى يصعب عليه القيام بها، أو بمعنى أدق لتسهيل حياته. فيما يشبه ما يطلق عليه حاليا "التعهيد". ومع كل يوم يمر كان الإنسان يرتبط أكثر فأكثر بالأجهزة التكنولوجية التى يصنعها، حتى باتت التكنولوجيا طائعة تقدم له القهوة الساخنة، وهو مسترخ فى فراشه. وشعر الإنسان بالتناغم والألفة مع الأجهزة التكنولوجية، حتى وصلنا إلى درجات عالية من التناغم والاعتمادية بين الإنسان والآلة. الإنسان يعمل بهمة لصنع أجهزة تكنولوجية أكثر ذكاء لكى تفهمه، وتستجيب لطلباته وأوامره، وفى المقابل الأجهزة الذكية تقوم بدورها على أكمل وجه لخدمة رفاهية الإنسان والإنسانية، وتساهم بقدر وافر فى جعل حياته أكثر رخاء، ويسرا وسهولة. علاقة عاطفية عندما نتحدث عن الأجهزة التكنولوجية، ولتقريب الصورة للأذهان، فسنأخذ الهاتف الذكى كنموذج مثالى لجهاز تكنولوجى، نعرفه جميعا، ونتعامل معه يوميا. لقد أضحت الهواتف الذكية أشبه بتوأم ملتصق بنا ماديا ومعنويا. شريكتنا فى الأفراح والأتراح، وباتت تربطنا بها علاقة عاطفية. نشعر بقلق لغياب الهاتف الذكى عن أعيننا، وتتوتر أعصابنا إذا بدأت طاقة البطارية فى النفاذ دون وجود مصدر للطاقة. ونكاد ننفجر غيظا إذا انقطع اتصالنا بالشبكة ولو لدقائق معدودة، ناهيك عن الطامة الكبرى إذا فقدنا هاتفنا الذكى، وفقدنا معه كل البيانات والمعلومات التى لم نحتفظ بها. من الواضح إذا أن هذه العلاقة بين الإنسان والهاتف الذكى لها ما يبررها، وإلا فما الذى يدعونا للقلق من فقدان الهاتف الذكى، بينما هو لم يكن موجودا فى حياتنا أصلا قبل سنوات قليلة؟ تبدو القضية معقدة، فالعلاقة بين الإنسان وهاتفه الذكى باتت علاقة اعتمادية، نحن نعتمد على الهاتف الذكى فى إنجاز عشرات الأعمال، نتحدث هاتفيا، نرسل البريد الإلكترونى، الرسائل القصيرة، نخزن عليه أرقام هواتف العائلة، والعمل، والأصدقاء، ونستعين به فى التواصل الاجتماعى، بل بتنا نعتمد على تطبيقات الخرائط الموجودة على هواتفنا لمساعدتنا فى التنقل داخل المدن، وخارجها. التحول ومع تطور البرمجيات، وتصميمات الهواتف الذكية، والإكسسوارات الملحقة بها، وتطور تقنيات الاتصال بينها، بدأ الإنسان يدخل فى مرحلة اعتبار أن هذه الأجهزة هى امتداد ذهنى له، والتعامل معها فعليا على أنها جزء من عقله. ما فعلناه هو أننا بدأنا نلغى بعض الوظائف العقلية التى كنا نقوم بها فى الماضى، وعهدنا بهذه المهمة إلى هاتفنا الذكى. بدأنا فى تخزين أرقام التليفونات على الهاتف، ولم تعد عقولنا تقوم بنفس العمليات الحيوية التى كانت تقوم بها فى الماضى، لقد ألغينا فى حقيقة الأمر جزء من وظائفها فى حفظ أرقام الهاتف، ولم نعد نهتم بحفظ الأرقام. أى أننا اعتبرنا ذاكرة الجهاز كأنها جزء من ذاكرتنا الشخصية، أو أن ذاكرة الجهاز هى امتداد لاسلكى لذاكرتنا الشخصية، وبمعنى آخر، بدأنا نعتمد على الهاتف الذكى لدرجة أننا ألغينا بعض الوظائف الحيوية التى كانت تقوم بها عقولنا لصالح الهاتف الذكى. "العقل الممتد" لقد بدأ الإنسان يعتبر أن الهاتف، وهذه الأجهزة المنتشرة من حوله، وكأنها عقله الممتد، استنادا إلى نظرية "العقل الممتد"، التى أبدعها كل من آندى كلارك أستاذ الفلسفة بجامعة إدنبره بأسكتلندا، ودافيد جون كالمرز، الأستاذ بالجامعة الوطنية الأسترالية، وجامعة نيويورك، حيث اعتبرا أن الأجهزة الموجودة من حولنا بدأت فى التحول من كونها أدوات مساعدة إلى كونها أجزاء من عقولنا وأجسادنا. ويعتبران أن مثال تحويل بعض وظائف المخ إلى الأجهزة، ومنها الهواتف الذكية، يخلق ارتباطا لا يمكن الاستهانة به، لأن تغلغل الهاتف الذكى فى كل تفاصيل حياتنا، من حفظ أرقام الهواتف، والفيديو، والصور، وجدولة المواعيد، ومساعدتنا فى تحديد الأماكن وحفظها على الخرائط، وغيرها من التطبيقات، كلها فى الأساس كانت وظائف حيوية يقوم بها العقل البشرى،لكنه قرر الاستغناء عن القيام بتلك الوظائف، وأحالها إلى الهاتف، كأن الهاتف جزء لا يتجزأ منه. التكنولوجيا وصنع القرار عند البحث عن نوع الطعام الذى تفضله للغداء، يمكنك أن تكتبه على التليفون فتأتيك على الفور قائمة بالمطاعم المجاورة. يمكنك أن تدخل للموقع لمشاهدة الأطباق، واختيارها. ورغم أن هناك حرية اختيار ظاهرة، غلا أننى فى الحقيقة أسير اختيارات الهاتف الذى حدد لى اختياراتى، فاخترت من بينها. إذا الهاتف ليس صانع قرار، ولكنه أشبه بالصانع التنفيذى للقرار، لأنه يوفر لك كل المعلومات التى تقودك لصنع القرار. يتصور البعض الأمر على أنه اشبه بعملية زرع هاتف ذكى فى الدماغ، أو ذاكرة اضافية للدماغ، ولكن الحقيقة أنه لم يتم زرع أى شرائح إلكترونية داخل جسمك، فالحقيقة أن هاتفك منفصل عنك، ولكنه متصل، فهذه الذاكرة الخارجية للهاتف الذكى أصبحت ذاكرة إضافية للعقل البشرى. وهى جزء مكمل لعقلنا لأنها تمد عقولنا بالمعلومات اللازمة عند اللزوم. التكنولوجيا والذكاء البشرى قد يحاجج البعض بالقول أن للتكنولوجيا تاثيرا سيئا على العقل البشرى، استشهادا بالمثال المذكور سابقا حيث يتوقف المخ عن القيام ببعض الوظائف الحيوية للذاكرة كحفظ الأرقام وينقل أعباء هذه الوظيفة إلى ذاكرة الهاتف. هذا صحيح، ولكن فى نفس الوقت، لقد أصبحت المعرفة بكل أبعادها متاحة لنا فى كل وقت. فيمكننى السؤال فورا عن أى شىء، والعثور على عشرات المصادر المعرفية التى تغذى العقل بالمعرفة التى لم تكن تتوافر من قبل. الآن أصبحت نافذة المعرفة الإنسانية، والخبرة مفتوحة بلا حدود، ويمكننى أن أنهل منها فى أى وقت، وفى أى موضوع، لقد قدمت التكنولوجيا بدائل أوسع من البدائل التى يمكن أن يسعفنا بها عقلنا البشرى فى لحظات معينة. ذاكرة خارجية خذ مثلا أنك تريد معرفة معلومات أكثر عن "نظرية العقل الممتد" التى نتحدث عنها فى هذا الموضوع، ولكنك لا تمتلك مثل هذا الكتاب فى مكتبتك؟ بكل بساطة، يمكنك عبر عملية بحث بسيطة على الإنترنت، العثور على عشرات المواضيع التى يمكنها أن تروى ظمأك للمعرفة. أو أنك تريد مشاهدة فيلم ترتبط معه بذكريات قديمة، أو تحن لسماع أغنية ما. بكل بساطة، ابحث فى ذاكرتك الممتدة، فى الأجزاء الخارجية من ذاكرتك، فى مصادر تخزين البيانات الأكبر، فى مخزن البيانات الهائل، استنجد بهاتفك الذكى، وسوف يسعف عقلك بكل ما يحتاجه. العقل البشرى العقل البشرى، كما يقدر العلماء يعتبر معجزة فى حد ذاته، خصوصا إذا عرفنا أن جميع أجهزة الكومبيوتر فى العالم التى تستطيع معالجة أوامر تصل إلى 6.4 كونتليون (1 كونتيليون = 10 مليون تريليون عملية فى الثانية أو 10 أس 18). ولكن هذا الرقم يكاد يساوي عدد النبضات العصبية التي يرسلها مخ إنسان واحد كل ثانية. مما يعنى أننا نحتاج كل أجهزة الكومبيوتر فى العالم لمعالجة المعلومات التي يقوم المخ البشري بمعالجتها كل ثانية. وربما يكون الإنسان المعاصر هو الأوفر حظا مقارنة بالعصور الزمنية السابقة، حيث يمكنه الاستفادة من مقومات العصر التكنولوجى، والمعرفى، وابتكار المزيد من التطبيقات، والأجهزة التى يمكنها التفاعل مع العقل الإنسانى. لقد نجحت التكنولوجيا فى السنوات الأخيرة فى سبر العديد من أسرار العقل البشرى، ومكوناته، واقسامه، وكيفية عمله، واتصاله، وسيطرته على جميع أجزاء الجسم. بل إن التكنولوجيا تدخلت كما أسلفنا لعلاج قصور بعض الوظائف العقلية والحيوية، وجعلت الإنسان أكثر كفاءة وفاعلية، وقدرة على الاندماج مع التكنولوجيا بالمعنيين المادى والمعنوى. وهناك الكثير من مراكز الابحاث التى تعمل على سبر أغوار العقل البشرى. وقد نجحت بعض الأبحاث التى أجرتها وكالة مشروعات أبحاث الدفاع المتقدم الأمريكيةفى التوصل إلى نتائج هائلة فى فهم وتحليل إشارات المخ للتوصل إلى تكنولوجيات جديدة فى التعامل مع العقل البشر، مما قد يفتح آفاقا جديدة أما استخدام إشارات المخ في التعامل مع الأجهزة الإلكترونية، والاتصال بها، لاسلكيا. تبادل المعلومات ولكن هذا الشكل اللاسلكى للاتصال مع العقل البشرى لن يكون كالاتصال اللاسلكى التقليدى الذى نعرفه اليوم، بل سيكون اتصالا مباشرا بين البشر من عقل إنسان إلى عقل إنسان، وبذلك ستتيح التكنولوجيا للعقل البشرى تبادل المعلومات سواء من العقل إلى العقل مباشرة، أو عن طريق الاتصال بين العقل البشرى وشبكات المعلومات أو الأقمار الصناعية. كما أن نجاح العلماء فى معهد "ماكس بلانك" فى ألمانيا فى إنتاج رقاقة مصنوعة من مادة السيليكون يمكنها تحفيز الخلايا العصبية لتنتج اتصال ثنائي بيني لنقل المعلومات عن طريق تحويل النبضة العصبية من العقل إلى إشارة إلكترونية والعكس، يبشر بإمكانية توصيل أى جهاز إلكترونى بهذه الخلية التى تعمل كوسيط بين العقل والجهاز. كما أن التوصل إلى إمكانية استقبال وفهم وتفسير النبضات العقلية العصبية وإرسال إشارة يفهمها العصب وبالتالى المخ، (يسمى العلماء هذه الخلية "الترانزستور العصبى" neuron transistors)، يمكن أن يكون نواة لمزيد من الأبحاث والمشاريع التى تتناول الاتصال بين الإنسان والأجهزة الإلكترونية. الترانزستور العصبى وقد تم بالفعل التوصل إلى نسخ مطورة من الترانزستور العصبى، منها ما يسمى ب "مدخل اتصال العقل". وهذه النتائج كانت ثمرة أبحاث تمت أساسا بهدف ابتكار وسيلة اتصال بين إشارات العقل والأطراف التعويضية الصناعية للتحكم بها. تماما كجهاز الكمبيوتر. حيث من الممكن أن يتم ابتكار وحدات إدخال وإخراج للبشر, حتى يتم نقل البيانات من الأجهزة الإلكترونية للمخ مباشرة. وقتها، يمكننا الاستماع إلى الموسيقى المفضلة، ومشاهدة مقاطع الفيديو المحببة عبر توصيل كارت الذاكرة بالعقل البشرى، والاستمتاع بهذه الوسائط. الأجهزة الطبية وغنى عن البيان القول التذكير بأن التكنولوجيا الطبية نجحت بشكل كبير فى قطع مسافة لإنشاء اتصال بين الإنسان والدوائر الإلكترونية، فالأجهزة الطبية تحقق ذلك الدمج بين البشر والإلكترونيات بشكل جيد، وقبال للتطور، ومثالنا فى ذلك، أجهزة تنظيم ضربات القلب، مضخات الأنسولين، وشرائح المعالجة المرتبطة بقشرة المخ، وغيرها الكثير من التجارب الطبية التى أجريت لجعل المخ يتحكم مباشرة فى جهاز الكمبيوتر باتصال لاسلكي دون الحاجة لاستخدام الأيدى. وهناك تطبيقات تكنولوجية طبية تعمل على مساعدة فاقدى نعمة البصر عبر توجيهات إرشادية صوتية، تعتمد على أنظمة تحديد المواقع، ويمكن لبعض الأنظمة مساعدة فاقدى البصر من خلال مجسات، وعبر إرسال إشارات أو نبضات كهرومغناطيسية، إلى المخ، الذى يتعرف على الإشارة، ويتحرك على أساسها. وهناك تقنيات يمكنها من خلال تلك الإشارات تعريف مخ فاقد البصر بالألوان، حتى يمكنه تخيل المناظر والألوان من حوله. حان الوقت للتفكير يقول العلماء أن معظم خلايا المخ التى تستخدم فى التفكير أو حفظ المعلومات هى خلايا مشتركة. وعند نقل الذكريات والمعلومات كلها من المخ وحفظها على كروت ذاكرة خارجية، تصبح هذه الخلايا بالكامل متفرغة فقط لوظيفة واحدة وهى التفكير.