بات بوسع البشرية أن تستعيد الثقة التي كانت قد فقدتها بسبب توحش العولمة فى القيم العليا النبيلة التي راكمها نضال الشعوب ودافع عنها الشرفاء من المواطنين فى كل أنحاء العالم فى السنوات السود التي أعقبت سقوط المنظومة الاشتراكية، ثم توحش الرأسمالية مع بروز أسوأ مكوناتها فى ظل سياسات الليبرالية الجديدة، وهيمنتها على العالم أجمع، وتجلي هذا الأسوأ مؤخراً فى انتخاب « دونالد ترامب « رئيساً للولايات المتحدةالأمريكية عنوانا للجهل والخسة الاخلاقية التي يجري غسلها بسلطة المليارات. توالدت شواهد فى الأسابيع الأخيرة تقول لنا إن مقاومة الشعوب للإنحطاط لن تتوقف رغم كل الخسائر التي لحقتها فى ظل هيمنة المال والقوة وهما يسحقان الضعفاء شعوباً وطبقات. اندلعت فى مواجهة قرارات الرئيس الأمريكي الجديد ضد المهاجرين والمسلمين عامة موجة من الاحتجاج بدأت فى الولاياتالمتحدة ذاتها بما سماه بعض الإعلاميين بثورة القضاة التي أوقفت قرار الرئيس ضد المهاجرين. وكانت كل قوى اليمين فى العالم قد انتفخت أوداجها مهللة لمواقف « ترمب « وقراراته، واستعد الجميع للانقضاض على المهاجرين والأجانب أو « الأعراب « كما يسميهم العنصريون، وهم المواطنون الذين لاذوا بكل من أوروبا وأمريكا وكندا هربا من جحيم الحروب الأهلية التي فجرتها ومولتها وسلحتها الأمبريالية العالمية خاصة فى منطقتنا دفاعا عن مصالحها غير المشروعة فيها، وسعياً لتعطيل تطور المنطقة فى اتجاه السيطرة على مصيرها وإدارة ثرواتها بما يخدم مصالح شعوبها. ولم يقتصر الأمر على القضاة فى الولاياتالمتحدةالأمريكية بل إن المظاهرات ضد مجمل سياسات الرئيس الجديد لم تهدأ حتى من قبل دخوله إلى البيت الأبيض، وتضامن فنانون وساسة وأعضاء من الكونجرس مع بعضهم البعض ليفضحوا عنصرية السياسات الجديدة وهم يطالبون بفتح أبواب أمريكا للمهاجرين إذ أن أمريكا هي أصلاً بلد مهاجرين. وقبل أيام خرجت فى « برشلونه « مظاهرة قدرها إعلاميون بمائتي ألف مواطن أسباني، تطالب الحكومة باستضافة اللاجئين، وتحذرها من رفض أي طلب للجوء أو دخول البلاد، وكما قالت اللافتات التي حملها المتظاهرون «علينا أن نكون أوفياء للقيم الإنسانية والمواثيق الدولية التي وقعت عليها حكوماتنا». وأيا ما كانت الأسباب الاقتصادية خاصة التي دفعت المستشارة الألمانية « ميركل « لاستقبال عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين بعد تدمير بلادهم، إلا أنه إجراء ينم عن التزام بالمواثيق الدولية، ويتضمن إحراجا للبلدان والحكومات الأوروبية التي أقامت الحواجز فى وجوههم، وذلك بعد أن أسهمت فى تأسيس الجماعات الإرهابية، ومساندة الاستبداد والفساد. وصرح المرشح اليساري فى انتخابات الرئاسة الفرنسية « ماكرون « قائلا فى سياق حملته الانتخابية إنه يعتذر شخصيا للشعوب التي سبق أن استعمرتها فرنسا لأن الاستعمار هو جريمة ضد الإنسانية. وتعرض « ماكرون « لهجوم كاسح من قبل قوى اليمين واليمين المتطرف الذي طالما رأى فى الاستعمار خدمة للشعوب لأنه يساعد « المتوحشين « على الدخول فى الحضارة !. ويشكو الساسة الإسرائيليون وأنصار المشروع الصهيوني فى أوروبا وأمريكا من زيادة التأييد للقضية الفلسطينية، وإدانة الأعمال الوحشية التي تقوم بها إسرائيل فى الأراضي المحتلة وهي ظاهرة تنمو خاصة فى الجامعات، وتتصاعد إجراءات المقاطعة ضد الكيان الصهيوني. وحين اعترضت الإدارة الأمريكية على قرار الأمين العام للأمم المتحدة بإختيار رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق « سلام فياض « مبعوثا للأمم المتحدة لحل النزاع فى « ليبيا «، رد الأمين العام الجديد « جوتيرشي « قائلا إن « فياض « هو أفضل اختيار يمكن أن يقوم بالمهمة التي كلفه بها الأمين العام، وطبعا ما يزال الأمر معلقاً. سوف نبقى نتساءل عن المنابع الثقافية والأخلاقية التي تكاتفت لإنتاج هذه المواقف النبيلة التي تبدد بعض حلكة الأيام السود التي نعيشها. ومما لاشك فيه أن أول ما يتبادر إلى الأذهان كسبب هو الحريات الديموقراطية التي إنتزعتها شعوب هذه البلدان عبر صراع طويل ضد الديكتاتوريات، وأشكال الاستبداد التي ضربتها فى السابق، ولا ننسى فى هذا الصدد ما ألحقته الحملة المكارثية فى مطلع الخمسينيات ضد الثقافة والمثقفين فى أمريكا ولا ننسى ما فعلته النازية فى المانيا وأوروبا كلها. ولكن حين انتزعت الشعوب حرياتها كان لها شأن آخر، وأخذت تعيد بناء ثقافة الاستنارة والعدل والتضامن. وكان تطور التعليم وتراكم المعرفة، والبحث العلمي عبر النقد والتساؤل سبباً آخر، وعبر المفكر « سمير أمين « عن احترام يكاد يكون انبهارا بمدى تقدم البحث العلمي فى الجامعات الأوروبية والأمريكية، ويزدهر البحث العلمي ويجترح المعجزات فى ظل النقد والحرية. ويزدهر أيضا التضامن الأممي حين تنتقل النظرة المنسجمة والمتكاملة إلى العالم وقضايا الشعوب من ميدان الفكر إلى ميدان العمل، فتتحول إلى قوة مادية تعري وتفضح الخيارات العنصرية لليمين، وهي مبنية على الاستقلال وسيطرة المال والتي سوف تسقط حتماً مهما طال الزمن.