التعصب الديني أو العرقي ظاهرة تعكس التخلف، فلن تجد تعصبا ضد الآخر في مجتمع متقدم متحضر، حتي وإن بدا كذلك من خارجه، إن هذه النظرة تعكس ثقافة بدائية أو قبلية، وقد تجسدت هذه النظرة في المجتمعات النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكرية اليابانية، وفي المجتمع الأمريكي زمنا طويلا، وهي نظرة تشحن أصحابها بكراهية الغير وبغضائهم والتعالي عليهم واعتبارهم ادني مرتبة منهم في قائمة البشر، وتجسد الصهيونية، والجماعات الدينية المتشددة والعنصرية شرقا وغربا هذه النظرة في زماننا الحالي. ونحن إن عدنا في مصر إلي الخلف بعض الشيء، إلي زمن الملكية وشبه الإقطاع لوجدنا نبرات تعصب ديني وعرقي متناثر يمكن أن ينطبق عليها القول بأنها فردية أو محلية علي أكثر تقدير، لكنها ليست جزءا من سياسة الدولة، ولا جزءا من المناخ العام الذي يسود بين المصريين، كانت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين علاقات مواطنة وجوار ومحبة وسلام وصداقة ووئام، وسعي الاستعمار حثيثا لفرض سياسة فرق تسد، لكنه ووجه بالهلال والصليب معا صفا واحدا ويدا واحدة. هبة ديمقراطية ثم جاءت ثورة 23 يوليو 1952 ومعها بعض القادة الذين امتدت أصولهم لحزب الإخوان المسلمين، بل غدت الجماعة ذاتها في تحالف مع السلطة الجديدة التي أفرجت عن سجنائهم ومعتقليهم، ومنحتهم وحدهم حق التنظيم والتعبير، في حين حلت كل الأحزاب والهيئات، وحرمت الجميع : من أي حقوق سياسية باستثنائهم بحجة أنهم جماعة وليسوا حزبا، وصار منهم وزراء ومستشارين للدولة، وتوغلوا فيها حتي أوشكوا يمسكون بزمامها بمعاونة محمد نجيب، مستفيدين من الهبة الديمقراطية في مارس 1954، محاولين استغلال التحرك الجماهيري الهائل للتغيير إلي أمام، استغلاله لحسابهم ليحققوا هم تغييرهم إلي وراء. وقد بدأ النظام خلال الفترة من 1952 إلي 1970 زرع بذور التعصب داخل الدولة ذاتها، إذ انتهج سياسة تحجيم دور المسيحيين ووجودهم بإقصائهم عن المناصب العليا في الدولة: وزراء، محافظين، سفراء، رؤساء مصالح وهيئات، أساتذة جامعات وعمداء ومديرين، وحدد لهم نسبا عند الترقية للمناصب القيادية «مدير عام فما فوق»، وحصل الكثيرون ممن ترقوا إلي هذه المناصب عليها بأحكام قضائية، لم تكن الكفاءة هي المعيار كما زعموا، لكنها الديانة التي غدت عقبة كئود تعوق الترقي والتصعيد، كما حددت نسب «غير معلنة بالطبع لدخول الكليات العسكرية» وجاء زمن السادات ليعلن نفسه رئيسا لا لكل المصريين، لكن أميرا للمؤمنين تحت مسمي «الرئيس المؤمن»، وليفتح الباب واسعا أمام الجماعات الدينية وحزب الإخوان، ليستخدمهم كالمعتاد حرسا حديديا له يضرب بهم خصومه خاصة اليسار والشيوعيين، ويصبح التعصب وقد تفاقم سياسة للدولة، ويفتح الباب أمام الفتنة الطائفية ومآسيها، ويصعد السادات صدامه فيخلع بابا الأرثوذكس ويستبعده ويسجن القساوسة، وهو أمر غير مسبوق في مصر الحديثة. وجاء حكم مبارك وفيه تعاظم دور الإخوان، ومع كل تقييد علي الأحزاب الشرعية توفر فراغ ملأته تلك الجماعة، وحاولت بعض الأحزاب الشرعية اكتساب نفوذ بالتحالف معهم، وفتح أبواب للشرعية الخلفية لهم من خلالها، وأجادوا هم استخدام كل ذلك فاخترقوها، واخترقوا الدولة ذاتها، وتغلغلوا في أهم مواقعها، وولجوا مفاتيح سيادية بها، ففرضوا شرائعهم باسم الدولة، وتداخلت سلطتهم «المحظورة» بالسلطة الحاكمة، وزايدت الحكومة عليهم ونفذت ما يطلبون وقد تلفحت بمسوح أكثر تدينا. مغالطة دعاة امتلأت كراسات التعليم بحشو من المعلومات غير الأمينة التي تقدم تاريخ مصر ناقصا مشوها، وبمعلومات تربي النشأ علي عداء الآخر وكراهيته وتؤسس لتفتيت مصر، والدولة مسئولة، ووزارة التربية والتعليم مسئولة. وظهر في الإعلام دعاة يغالطون، فيتحدث أحدهم في برنامج خاص عن ذبح المسلمين بيد نصاري الغرب ويحرض علي الثأر، والمواطن العادي لا يفرق يقينا بين نصاري الغرب ونصاري مصر، فممن يثأر انتقاما لأخوته إن لم يكن من نصاري مصر!! وآخر يفتي في برنامجه بأنه يجوز للمسلم أن يحيي المسيحي ولكن لا يجوز له أن يحبه، مناخ عام يدفع بالعداء إلي حد القتل والدولة مسئولة ووزارة الإعلام مسئولة، وأئمة مساجد يحرضون ويفتون ويعبئون بل يتزعمون هجمات الحرق والتدمير وهم يزعقون بصرخة الحرب، الله أكبر، الله أكبر، ومن هؤلاء من يتبع الدولة، ويحملها ووزارة الأوقاف المسئولية الكاملة. وقوانين الدولة الخاصة ببناء الكنائس قوانين جائرة للغاية سنت في عصور عتيقة مظلمة، قوانين تفتح الباب واسعا أمام الصدام الطائفي، فالمسيحيون لا يستطيعون ترميم كنيسة أو ممارسة عقائدهم بغير تصريح، وإن فعلوا ذلك في جمعية أو ناد أو مبني عادي حق للمواطنين «الغيورين علي قوانين الدولة، الحريصين حرص الدولة علي تنفيذها» أن يدمروا ويحرقوا ويقتلوا. ويجري الهجوم علي تجار الصاغة المسيحيين وسرقتهم وقتلهم، ويقول المسئولون إن تلك صناعات عادية فردية مهما كثرت وتعددت، ويحرق أحدهم عددا من الكنائس ويقول المسئولون إنه مخبول أصابته لوثة، ويقتل مسيحيون بحجة اعتداء شاب مسيحي علي فتاة مسلمة اغتصابا أو تحرشا أو نشرا بالصور، وكأن كل المسيحيين مسئولون جماعيا عن تصرفات بعضهم البعض حتي وإن كانوا من بلد آخر، وهم خارجون من الكنيسة ليلة العيد، وكأن من فعل فعلته، إن كان قد فعلها، قد ارتكب هذا الجرم بصفته الدينية لا صفته الشخصية، وكأن المسيحيين في مصر قد غدوا كزنوج أمريكا يقتل الواحد منهم، وعشيرته، أو يعلق من عنقه في شجرة إن نظر إلي فتاة بيضاء. جرائم فردية وإذا بني سور ملحق بكنيسة، حتي وإن كان ذلك خطأ، فالمحليات وحدها هي التي عليها تصويبه، قام بعض الأهالي بالهدم والحرق والتدمير، وكأننا عدنا إلي زمن الغابة، لا حكم ولا قانون. وعندما تظهر أنفلونزا الخنازير في أمريكا اللاتينية، تقدم حكومتنا، ربما دون حكومات العالم أجمع، بإعدام الخنازير ذبحا وردما بالجير وهي حية بحجة حماية المصريين من المرض، وفي يقيني أن ذلك كان موقفا دينيا من الدولة والقوي السلفية خارجها. وتعلن الحكومة عن عمد وبدم بارد أن كل أعمال الشحن والتعبئة والمناخ المسموم والحرق والقتل والتدمير بطائفة دينية بذاتها أعمال جنائية عادية، جرائم فردية، والوحدة الوطنية بخير، والنسيج الوطني متين، وكأن الإنكار في ذاته ينفي الظاهرة ويريح الضمائر ويشكل سحابة سوداء تعتم علي واقع الحال. والحقيقة أن الإنكار الرسمي والتجاهل الفعلي يؤكد الظاهرة، ويؤكد مسئولية الدولة عنها، ويؤكد أننا أمام عمل منظم تماما، مدروس تماما، لا يعتمد علي التلقائية، إنما تقوم به أياد تتواجد من قنا إلي مرسي مطروح، وأنه ليس لدي الدولة أي نية للتصدي لتلك الكارثة التي تهددنا. وغالبا ما يقبض علي القتلة والمجرمين، لكنهم دوما ما يحظون بالإفراج لضعف الأدلة أو للجنون، وبذا أصبح من حق البعض أن يحرق ويدمر ويدك ويسوق ويقتل ويحظي بالبراءة في الأرض، وبالجنة في السماء، ونعم المصير. إن هذه السياسة هي سياسة قهر علي أسس دينية، وهو قهر ليس مقصورا علي المصريين المسحيين وحدهم، لكنه قهر أيضا للمصريين البهائيين، وللمصريين الشيعة، وهي سياسة يجري ضمها إلي كل أشكال القهر التي تمارسها الدولة علي المواطنين المصريين، هنالك القهر الطبقي للطبقات المصرية، ماعدا الطبقة الحاكمة، وخاصة العمال والفلاحين والمثقفين ومحدودي الدخل والمهمشين والكادحين وصولا إلي الأجزاء الدنيا من الطبقة الوسطي، وهنالك القهر الجنسي، قهر الأنثي طفلة ويافعة، وهنالك قهر المعارضة والخصوم السياسيين، وقد وصل هذا القهر إلي حد تهميش اليسار دينيا ووظيفيا وسحله في المعتقلات والسجون. وهنالك أشكال من القهر القومي كما هو حادث مع المصريين النوبيين، نحن نعيش زمن القهر، وبداية المخرج هي وحدة كل المقهورين، والقهر الديني والطبقي والجنسي وقهر الخصوم، لا يقف فقط عند حد الحكومة، بل يمتد إلي المجتمع أيضا ليصبح قهرا مجتمعيا، وتسعي الحكومة جاهدة لتحويل الصراع الموجه ضدها إلي صراع بين مجموعات وفئات الشعب، تأكيدا لمبدأ فرق تسد، وليطحن المطحونون بعضهم البعض، وليفشل المقهورون، فاقتتالهم رحمة بالسلطة، وإخلاء للساحة لها كي تنفرد بالسيادة وبكل خيرات البلاد. الرمضاء والنار يجب ألا تقبع كل فئة في خندقها، فالتشرذم والتناثر هدف لكل حكم قاهر، إذ ما أيسر القضاء علي المنقسمين. يجب علي المسيحيين أن يدركوا أنهم ليسوا وحدهم محل قهر النظام القائم، إنهم جزء من فئات وطبقات شعبية عدة تشكل الغالبية الساحقة من الشعب المصري، وهم جميعا يعانون مثلما تعانون، وإن اختلفت أشكال المعاناة، ومن هنا تصبح جريمة كبري إذا احتشد المسيحيون وحدهم في خندق ديني هو خندق المسيحية في مواجهة خندق الإسلام، فذلك عين ما تسعي إليه السلطة، ودعاة التعصب والعنصرية والتشدد السلفي، الساعين إلي التمايز تحقيقا للتمييز. علي المصريين المسيحيين ألا ينساقوا لأحد من بينهم يدعونهم إلي هوس ديني مضاد، فذلك يعني حربا طائفية، هي الخراب والدمار بعينه، وعليهم ألا ينصاعوا لأحد منهم يدعونهم إلي العزلة فذلك سيحقق الانفراد بهم تمهيدا لإبادتهم، وعليهم أيضا ألا يستجيبوا لأحد منهم يدعونهم إلي دعم النظام القائم ووريثه، بحجة أنه حاميهم من حزب الإخوان، فالحقيقة أن الحزب الحاكم وحزب الإخوان صنوان، وكلاهما سواء في قهرهم، والمستجير بواحد منهم كالمستجير من الرمضاء بالنار. إن مكان المسيحيين هو خندق كل المصريين المقهورين الذين هم جزء لا يتجزأ البتة منهم، خندق الغالبية الساحقة من الشعب الساعي بإيمان وعناد للتغيير إلي أمام، للتغيير نحو الأفضل، من أجل دولة لكل الشعب، دولة مدنية علمانية ديمقراطية تحقق العدالة الاجتماعية وتحمي المواطنة وحقوق الإنسان. وظهر في الإعلام دعاة يغالطون، فيتحدث أحدهم في برنامج خاص عن ذبح المسلمين بيد نصاري الغرب ويحرض علي الثأر، والمواطن العادي لا يفرق يقينا بين نصاري الغرب ونصاري مصر، فممن يثأر انتقاما لأخوته إن لم يكن من نصاري مصر!! وآخر يفتي في برنامجه بأنه يجوز للمسلم أن يحيي المسيحي ولكن لا يجوز له أن يحبه، مناخ عام يدفع بالعداء إلي حد القتل والدولة مسئولة ووزارة الإعلام مسئولة، وأئمة مساجد يحرضون ويفتون ويعبئون بل يتزعمون هجمات الحرق والتدمير وهم يزعقون بصرخة الحرب، الله أكبر، الله أكبر، ومن هؤلاء من يتبع الدولة، ويحملها ووزارة الأوقاف المسئولية الكاملة.