شرف كبير لي أن ألبي دعوة الصديق العزيز الأستاذ محمد الأبنودي مدير تحرير "عقيدتي" بالعودة للكتابة في هذه الصحيفة المتميزة.. وكان الأستاذ السيد عبدالرءوف رئيس التحرير الأسبق رحمه الله قد دعاني من قبل للكتابة في "عقيدتي" ثم توقفت لأسباب خاصة سوف يأتي الوقت المناسب للحديث عنها.. المهم انني عدت.. والعود أحمد. * * * كثيراً ما يراودني السؤال: لماذا لم ينخرط آباء التجديد الديني في الجدل الذي ننخرط فيه اليوم عن الخلافة وأهل الذمة والجزية والغنائم والسبايا والرقيق واللحية والجلباب.. وإنما انشغلوا دائما بالجدل حول قضايا التعليم والعمران والترجمة والشوري والاستبداد والاستعباد والحرية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وتربية الأولاد والبنات.. إلخ؟! وأقصد بآباء التجديد هنا أجدادنا العظام الذين أناروا عقولنا بفكرهم وعلمهم ومؤلفاتهم خلال القرنين الماضيين ابتداء من رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ومروراً بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وعبدالرحمن الكواكبي وصولاً إلي الشيخين الجليلين محمد الغزالي ومتولي الشعراوي. هؤلاء الأفاضل هم الذين حملوا مشاعل النهضة الحديثة في مصر والعالم العربي والإسلامي.. وكانت لديهم القدرة العلمية كما توفرت فيهم ثقة الجمهور والنخبة التي تجعلهم يخوضون غمار التجديد الديني ويطرقون هذه القضايا بقوة لو انهم رأوا انها من أعمدة الدين وضرورات حياة الأمة كما يقول بعض المحدثين الذين جعلوا جل اهتمامهم بالشكل دون المضمون.. وحتي الذين تناولوا "الحاكمية" مثل أبو الأعلي المودودي في كتابه "الحكومة الإسلامية" أو سيد قطب في كتابه "في ظلال القرآن" لم يربطوا بين هذه الحاكمية وإقامة الخلافة.. وإنما غلب مفهوم تطبيق الشريعة التي هي منظومة متكاملة من القوانين الأساسية للدولة علي دعوتهم للحاكمية. ومن هؤلاء الآباء المجددين من هاجم "الخلافة" العثمانية.. ودخل في صدام علني مع الخليفة واتهمه بالاستبداد.. وهو ما يخالف الأقدمين لمفهوم الخلافة والبيعة.. وعندما حاول بعض المتزلفين إعلان الملك فاروق خليفة للمسلمين والإدعاء بأن نسبه يعود إلي "آل البيت" كانت هناك معارضة شديدة لذلك.. وقيل صراحة ان الملكية الدستورية هي الأكثر اتساقا مع العصر من الخلافة. ماذا يعني ذلك؟! يعني بكل صراحة ان الجدل الذي يجرنا إليه اليوم دعاة العودة إلي الخلافة وأهل الذمة والجزية والغنائم والسبايا هو جدل عقيم يجرنا إلي الخلف ولا يدفعنا للأمام.. إن علي الأمة أن تعود برشدها إلي ثوابت الدين وتعض عليها بالنواجذ إن كانت تريد أن تسترد مكانتها تحت الشمس وتسير في ركب الحضارة الإنسانية.. لكن ذلك لن يتحقق بالتركيز علي "الخلافة" واخواتها وإنما يتحقق بالتركيز علي العلم والعمل والتحرر من قيود التقليد والانطلاق إلي آفاق الإبداع والابتكار. نحن الآن في زمن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. والإسلام سبق كل الحضارات في ارساء هذه القواعد.. ونحن في زمن المساواة والمواطنة وتحريم الرقيق والسبايا.. والإسلام أيضاً سبق كل الحضارات في ذلك.. النظام العالمي الآن وضع آليات واضحة للتعامل مع قضايا حقوق الإنسان وديمقراطية الحكم وتبادل الأسري.. والإسلام لا يعارض ذلك وإنما يشجع عليه احتراما لكرامة الإنسان التي أعلي من شأنها. الآباء المجددون نظروا إلي الخلافة باعتبارها نظاما سياسيا يناسب العصر الذي قامت فيه.. ويناسب القيم الرفيعة التي جاء بها الإسلام الحنيف.. وهو نظام متقدم كثيرا علي الملكية القيصرية في روما والملكية الشاهنشاية في فارس والملكية الفرعونية في مصر.. وذلك لأن الشرعية فيها تأتي من البيعة ورضا الناس.. أي ان الأمة هي مصدر السلطة.. في حين كانت الشرعية في تلك الملكيات تأتي بالوراثة أو بغلبة السيف.. فلما تحولت الخلافة الإسلامية إلي ملك وراثي عضوض فقدت تميزها القيمي والأخلاقي.. ومع ذلك فالمسألة كلها في النهاية لا تخرج من دائرة الاجتهاد العقلي.. ولم تكن الخلافة عند هؤلاء المجددين ركناً من أركان الدين لا يكتمل إلا به كما يشاع اليوم. وقد كان واجبا لو استمرت قوة الدفع والإبداع التي بدأت بها الحضارة الإسلامية في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده أن يجري تطوير فكر الخلافة كنظام سياسي يقوم علي الشوري ومحاسبة الحاكم والفصل بين ذمته المالية والخاصة والذمة المالية للدولة.. لكن الجهد الفكري الإسلامي قصر عن ذلك وتجمد.. بل ارتد إلي الوراء وتخلف بالصمت علي التحول إلي الملكية الأسرية.. ولو حدث ذلك التطوير لكنا قد وصلنا إلي الديمقراطية الحديثة كنظام سياسي بآلياتها المعروفة.. وهي المحطة التي وصلت إليها الحضارة الإنسانية بعقول غيرنا.. الأكثر علماً ونضجا وتفتحا. ومادامت الديمقراطية تحقق مبادئ الشوري والعدالة والمساواة والحرية.. وتضع الضمانات الكفيلة بالحفاظ علي الكليات الخمس التي جاءت الشريعة من أجل الحفاظ عليها : الدين والنفس والعقل والعرض والمال فإنها لا تتصادم مع الإسلام.. وإنما تصبح البديل العصري المناسب للخلافة.. خصوصا اننا في زمن يصعب فيه تركيز السلطة في يد شخص واحد واعتباره أمير المؤمنين المحصن ضد الفساد والاستبداد كما كان الخلفاء الراشدون الأولون. الخلافة بنت زمانها.. ومن حقنا.. بل من واجبنا أن نضع النظام السياسي الذي يناسبنا في ضوء قواعد الإسلام وثوابته. وللحديث بقية..