بالرغم من أن قاعدة "الإنسان مدني بطبعه"» قد صارت من البدهيات. بمعني أنه لا يستغني الإنسان عن غيره ضرورة أن الله عز وجل جعل بعضنا لبعض سِخْريا. وأنه جعلنا شعوبًا وقبائل لنتعارف ونتعاون. فالزارع محتاج لمن يشتري منه ناتج زرعه» والتاجر محتاج إلي هذا الزارع ليحصل منه علي سلعة يبيعها. وكل منهما محتاج إلي الصانع ليستر جسده ولييسر أمره. والصانع محتاج إليهما ليطعم ويلبس ويسكن بالرغم من كل ذلك نري في طبيعة الإنسان وغرائزه الجامحة ما يجعله يجنح إلي إقصاء غيره ليستأثر وحده بما يراه مرضيا لهواه وشهواته. رأينا ذلك واضحا في قصة ابني آدم: "إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنَ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ" "المائدة:27". وأخيرًا طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله. بدل أن يأخذ بنصيحته في تحصيل تقوي الله. وجاء سيدنا نوح- عليه وعلي نبينا الصلاة والسلام- فنصح قومه ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلي الاستقامة علي أمر الله» مخبرًا إياهم أنه لا يسألهم علي ذلك أجرًا» فما كان منهم إلا أن قالوا: "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" "الشعراء:116". ولولا الطوفان وصنع السفينة بأمر الله لقتلوه. وجاء شيخ الأنبياء إبراهيم ينصح أباه بكل لطف وأدب ويوجه إليه أسئلة منطقية. فما كان منه حين عجز عن إجابته بعقلانية إلا أن قال له: "لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً" "مريم:46". ولولا هجرته إلي الشام لنفذ فيه أبوه تهديده. وحين رأي إخوة يوسف أنه أحب إلي أبيهم تآمروا عليه وقالوا: "اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ" "يوسف:9" وانتهي بهم الأمر إلي تجريده من قميصه وإلقائه في البئر. مدعين لأبيهم أن الذئب قد أكله وجاءوا علي قميصه بدم كذب. وهذا سيدنا موسي لم يطلب من فرعون إلا تحرير بني إسرائيل من عبوديته والسماح لهم بخروجهم من مصر فكان حديثه لحاشيته: "ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَي وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ" "غافر:26". وجاء المسيح عيسي ابن مريم ليُحل لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم ولينشر المحبة والسلام. فتآمروا عليه وحاولوا قتله وصلبه.. ولولا أن رفعه الله إليه وألقي بِشَبَهه علي غيره لصلبوه. ولم ينج من هذا الإقصاء خاتم الأنبياء إذ قررت قريش أن تختار من كل قبيلة شابا جلدا لينفذوا جريمتهم فيه حين يخرج من بيته. فأغشاهم الله وأعماهم. وذكرنا القرآن بهذا الكيد فقال: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" "الأنفال:30".وإذا كان هذا هو حال الرسل في تهديدهم بالقتل وتنفيذه علي كثير من أنبياء بني إسرائيل كما حدث لزكريا ويحيي عليهما السلام وغيرهما» حتي اشتهر بنو إسرائيل تاريخيا بهذا الإجرام فحلت عليهم الذلة والغضب: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقيّ" "آل عمران:112". بل إنهم كانوا يقتلون أيضا: "الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ" "آل عمران:21". فإنهم جميعا قد هددوا بالطرد والإخراج من ديارهم قال تعالي: "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا" "إبراهيم:13". وقد قيل ذلك لشعيب عليه السلام: "لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا" "الأعراف:88". كما قيل عن سيدنا لوط ومن آمن معه: "أَخْرِجُوا آلَ لُوطي مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسى يَتَطَهَّرُونَ" "النمل:56". واستمرت سياسة الإقصاء لأتباع الرسل.. فهؤلاء سحرة فرعون حين أعلنوا نتيجة المعركة دون أن يستشيروه ليزوّرها فقال لهم وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَي" "طه:71". وأهل الكهف يقولون عن الطغاة المطاردين لهم: "إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً" "الكهف:20". وهؤلاء أصحاب القرية كذبوا رسلهم وقالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابى أَلِيمى" "يس:18". هكذا يتربص أهل الباطل بأهل الحق» يتعصبون لباطلهم ويفرضونه علي غيرهم وليس أمامهم من وسيلة إلا سفك دماء مخالفيهم أو إجبارهم علي الدخول في باطلهم ويستخدمون في ذلك ما تميز به اليهود من التزييف والتشويه وقلب الحقائق ودس السم في العسل. مستغلين مهارتهم في الإعلام المضلل يمدونه بالأموال الطائلة للصد عن سبيل الله وإقصاء المصلحين إما بإخراجهم من أوطانهم وإما باغتيالهم أو اعتقالهم أو تضييق أرزاقهم أو وضع العراقيل في طريقهم وهم لا يبخلون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس كما قال رب العزة: "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَي جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" "الأنفال:36". وما أشبه الليلة بالبارحة وبخاصة في مصر! ففريق يرفض الخضوع لحكم الله كارها ما أنزل الله.. متعاونا مع الغرب والشرق في تشويه حقائق الإسلام مستخدمين بعض الحمقي والجهلة ممن يدعون أنهم من دعاة الإسلام يستضيفونهم في فضائياتهم ويوقعون بهم عن طريق أسئلة استفزازية ينتقونها من الإسرائيليات التي بُثت في تراثنا ويعرضونها علي أنها الإسلام. ويساعدهم علي ذلك أن الإسلام الحقيقي الوسطي المعتدل الذي حمله علماء الأزهر قرونا طويلة قد غُيب بفعل فاعل أكثر من ستين عاما في مدارسنا وجامعاتنا ومساجدنا ومنتدياتنا. وحل محله فكر الغرب المادي الذي لا يؤمن بالغيب ولا بالبعث والحساب ولا بالقيم والأخلاق فكل اهتماماته منصبة علي الدنيا وزينتها كما قال رب العزة: "زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا" "البقرة:212". وكما قال: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" "آل عمران:14". وبهذه الإمكانات الإعلامية والمالية كان صوتهم في مصر عاليا- علي قلة أعدادهم- رافضين التحاكم إلي الوسيلة الديمقراطية التي ينادون بها ويفاخرون بها ويجعلونها ميزة الحضارة الغربية- وهي قبول رأي الأكثرية» ويشتد الرفض إذا أتت النتيجة بمن يرفع راية الإسلام. أما إذا أتت بمن يكره الإسلام- نتيجة تضليلهم - فإنهم يهللون ويؤيدون. إن ذلك ليس ادعاء أو تجنيا عليهم فانتخابات الجزائر حين أتت بالإسلام تآمروا عليها إنها نفس النظرة إلي حقوق الإنسان فهيئة الأممالمتحدة تعلي منها إذا انتهكت مع مواطن غربي أو صهيوني. عندها تقوم الدنيا ولا تقعد أما الآلاف المؤلفة الذين يقتلون يوميا في أنحاء العالم ظلما وعدوانا من المسلمين في سوريا وليبيا واليمن والأفغان والباكستان وميانمار وغيرها فلا تحرك لهيئاتها ما داموا مسلمين. الديمقراطية إذن خاصة بغير المسلمين. وحقوق الإنسان خاصة بالإنسان الغربي فقط.. أما المسلمون فعليهم قبول الآخر لا ليتعايشوا معه علي قدم المساواة ولكن ليكون حاكما لهم. مسيطرا عليهم. مخرجا إياهم من دينهم وأخلاقهم. وأخيرا نتساءل: من يُقصي من؟ ومن الآن هابيل؟ ومن قابيل؟