* عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلي رسول الله فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك¢ * أي أن الأم أولي بحسن صحبة الابن من الأب بثلاث درجات مقابل درجة واحدة.. لأنها حملته كرها ولاقت الأهوال في حمله أولا ً.. ولأنها وضعته كرها وتحملت الآلام الفظيعة أثناء ولادته ثانيا ً.. ولرضاعته وتربيته صغيرا ً وكبيرا ثالثا ً.. فمن يتحمل أن ينظف الطفل من بوله وبرازه ويتحمل مرضه وسهره وبكاءه سوي الأم. * ولكن أمي الغالية ¢أم صلاح¢ رحمها الله كان لها عطاء معنا فوق عطاء كل الأمهات.. وأعظم من عطاء كل الأمهات.. لقد ظلت تجري خلفي من معتقل إلي آخر ومن سجن إلي غيره قرابة ربع قرن كامل.. لم تضجر أو تيأس أو تكل أو تمل.. أو تمن علي َّ أو تعايرني بما قدمت من أجلي.. وصبرت كذلك مع أبي وسبعة آخرين من أشقائي قبض عليهم كرهائن في بداية الثمانينات.. فكانت موزعة بين هؤلاء في سجن أسيوط وآخرين في أبي زعبل وقسم ثالث في منطقة طرة.. وهي التي لم تخرج قبل ذلك من بلدتنا الصغيرة إلا قليلا ً. * إنها الأم التي أقرب الناس إلي الرب سبحانه وتعالي.. فعطاء الأم هو أقرب ما يكون إلي عطاء الربوبية.. فالرب يعطي بغير منَّ ولمن يستحق ومن لا يستحق وكذلك معظم الأمهات.. والرب يعطي عباده جميعا ً المطيع منهم والعاصي المحسن منهم والمسيء الشاكر منهم والجاحد.. وكذلك معظم الأمهات * إنها الأم التي فطرها الله علي العطاء بغير حساب.. أما أمي فكانت صنفا ً متميزا ً من النساء.. لقد تخلي عنا كل الأقارب والأهل والجيران ولكن ذلك لم يفت في عضد أمي.. ولم يكسر عزيمتها في لم شمل هذه الأسرة من جديد والقفز علي محنة السجن التي أصابت الأسرة كلها بمن فيها أبي وأشقائي جميعا .. حتي إذا انجلت المحنة ولم يبق لها في السجن سواي وشقيقي وزوج أختي الشيخ رفعت فاهتمت بابنتها وأحفادها هؤلاء أكبر اهتمام.. حتي أنها حملت حفيدها عاصم الذي كسرت قدمه وسافرت به إلي القاهرة مع ابنتها ليروا أباهم السجين. * لقد ذهبت أمي خلفي إلي كل سجون مصر تقريبا ً من شمالها إلي جنوبها .. فذهبت إلي سجن دمنهور في الشمال وإلي سجن الوادي الجديد في أقصي الجنوب مرورا ً بكل من طرة وأبي زعبل وغيرهما.. فكم وقفت أمام السجون في الشمس الحارة في الصيف.. وكم انتظرت أمامها منذ الفجر حيث يأتي قطار الصعيد في زمهرير الشتاء إلي الواحدة أو الثانية ظهرا ًحيث تدخل الزيارة ولكن عقم الروتين يقتضي أن تسجل اسمك في الساعة الثامنة صباحا ً وتسلم تصريح الزيارة الذي يحتاج إلي رحلة منفردة للقاهرة من أحد أفراد الأسرة لاستخراجه . * لقد رأت أمي كل تقلبات الحياة ومعها السجون من عصر إلي عصر.. ومن شدة إلي رخاء.. ومن سعة إلي ضيق.. وهكذا وهي في كل ذلك متعلقة بالله ومرتبطة بالأمل فيه سبحانه أن تراني حرا ً قبل أن تموت حتي تحققت أمنيتها الغالية.. وعشنا وذهبنا سويا إلي رحلة الحج. * لقد تزوجت أمي وهي صغيرة السن ولكن حكمتها وعقلها كانت أكبر من سنها فاستطاعت أن تروض جدي وجدتي وتتحمل شدتهما واستطاعت أن تتحمل ظروف والدي الصعبة حيث بدأ فقيرا ً يبحث عن وظيفة فلا يجدها حتي عين موظفا ً في البريد مع حلول مولدي فتفاءلت الأسرة بي وأسموني ¢ناجح¢ علامة علي بداية النجاح والخير.. ثم استطاعت أن تدير مع أبي سفينة الحياة حتي علمت معظم أولادها تعليما ً جامعيا ً بدخل حلال قليل بارك الله لهم فيه وسترهم منه.. ثم تحملت والدي وهو قعيد خمس سنوات تخدمه مع أخي مجاهد صباح مساء ً.. لم تضجر يوما ً ولم تتركه يوما ً.. أما أخي مجاهد ففتح الله عليه أبواب الرزق العميم ببره العظيم.. فقد كان يحمل أبي كل يوم إلي الحمام ويغسله وينظفه ويحلق له شعره.. وفي أول مرة حمله أحس بألم شديد في ظهره فدعا ربه أن يعينه علي خدمة أبيه.. فذهب عنه هذا الألم حتي مات أبي.. ثم عاوده بعد ذلك في إشارة أن كل من سيطيع الله كان حقا ً علي الله أن يعينه.. لقد كان أخي مجاهد فقيرا ً فإذا بالدنيا تفتح عليه أبوابها ببره والديه وخدمتهما .. فقد ظل معهما يخدمها كل يوم حتي توفيا . * لقد كانت أمي نبعا ً للكرم.. وكان كل واحد منا يأتي بضيوفه إلي البيت في أي ساعة من ليل أو نهار فيجد فيه ما يكفي الضيوف ويزيدهم.. وفي بعض المرات كنت أحصي ثلاثين شخصا ً من الأسرة والضيوف يأكلون في بيتها وهي في قمة السعادة لذلك. * وكانت كلما خبزت خبزا ً ونحن صغار ترسل لكل جارة من جاراتها رغيفا ً من الخبز الشمسي الصعيدي الكبير وكان هذا عرفا ً متبعا ً في الستينات والسبعينات.. وكانت تتعاهد جارتها المسيحية ¢أم جمال¢ التي سافر أولادها وأحفادها إلي بلاد أخري فترسل لها الطعام يوميا ً رغم غني ويسر أم جمال .. وكانت الأخيرة تعتبرنا مثل أولادها. * لقد كانت أمي مثل الشجرة الوارفة الظلال علي من حولها.. وبعد أن ماتت جاءت امرأة قائلة لأشقائي: أمكم أعطتني سريرا ً هل تريدونه.. وأخري تقول: أمكم أعطتني أنبوبة بوتاجاز.. وثالثة: أمكم لها عندي كذا.. ورابعة وخامسة وأشقائي يقولون لهم: لا نريد شيئا ً منها فهذه هديتها لكم. * وكانت تقول لشقيقي ¢محمود¢ الناس غلابة ارحمهم.. وربنا يعطيك بعيدا عنهم.. وذلك حينما يريد أن يؤجر شقق منزله لأحدهم. * وكانت لا تدعو علي أحد مهما أساء إليها وتدعو للناس جميعا.. وكأنها علمت سنة النبي في ذلك وكانت تقوم الليل وتصوم الاثنين والخميس.. وقد جاوزت السبعين من عمرها.. وأنا لا أفعلها وأنا في الخمسين.. وكانت دوما ً أحكم مني وأفهم للإسلام مني.. وكانت أمي كلما دعت لأحد من أصدقائي يقول: لم أسمع أبدا ً دعاء ً صافيا ًرائعا ً صادقا ً مثلما أسمعه من أمك.. فأقول له: إنني أتمني أن يكون لدي بعض صدق أمي ونقاء فطرتها.. رحم الله أمي وكل الأمهات الأحياء والأموات.