* كانت أمي رحمها الله هي أهم وأفضل وأحكم وأصبر من وقف إلي جواري في محنتي الطويلة.. فقد ضحت بكل شيء وتحملت العناء معي في كل لحظة.. حتي أنها اعتقلت كرهينة قرابة شهر ونصف في مديرية الأمن قبل القبض علي َّ..ً ومعها أبي وسبعة من أشقائي. * لقد ظلت أمي تجري خلفنا من معتقل إلي آخر.. وكانت قبلها لا تعرف من الدنيا إلا بلدتنا الصغيرة ديروط ومحافظتها أسيوط حيث تعيش خالتي.. فلما اعتقلت مع أشقائي إذا بهذه المرأة البسيطة تطوف خلفنا سجون الدنيا كلها.. تارة تذهب إلي سجن أبي زعبل وهو أسوأ سجون الكرة الأرضية.. وأخري لي ليمان طرة..ومرات إلي استقبال طرة.. وتارة إلي دمنهور ووادي النطرون في أقصي الشمال .. ومرات إلي سجن الوادي الجديد في أقصي الجنوب.. لم تضجر ساعة.. ولم تتوقف عن العطاء أبدا ً.. تحمل إلينا أمومتها الحانية ومشاعرها المتدفقة وكلماتها الجميلة المنتقاه مع سلواها لجراحنا ومعها كل ما لذ وطاب من الطعام تحمله علي رأسها وهي السيدة المسنة وتلاقي الأهوال عند أبواب السجون يعيدها هذا السجان ويزجرها الآخر ويؤخرها الثالث وتخضع للتفتيش.. وقد تصل إلي بوابة السجن مع غيرها من الأمهات في السادسة بعد الفجر فلا تدخل إلا الساعة 12 ظهرا ً.. في حر الصيف أو في برد الشتاء دون أن يكون هناك مكان آدمي للانتظار.. حيث لم تنشأ هذه الأماكن إلا بعد عام 2002 م تقريبا ً . * وأذكر أنها ذهبت يوما ً لزيارة شقيقي المرحوم/ أحمد سعيد وكان وقتها معتقلا ً في سجن دمنهور فقال لهم الضباط : ليست هناك زيارة اليوم لأن هناك تفتيشا ً للسجن من مصلحة السجون.. وكانت هذه التفتيشات قبل المبادرة أسوأ ما تكون وتعني فقط الأذي والإهانة والتكدير والضرب.. ولا تفتيش فيها ولا يحزنون.. حيث لم يكن مع المعتقلين شيء علي الإطلاق من أغراض الحياة الآدمية.. ولكنه العقل الفرعوني الطائش الذي لم يعرف يوما ً حكمة ولا عقلا ً.. ولكن المبادرة أعادت العقل والحكمة للجميع . * المهم ماذا تصنع أمي ومن معها من السيدات من الصعيد في هذا اليوم ؟ * هل ترجع وتقطع قرابة 800 كم دون رؤية فلذة كبدها وولدها الحبيب أحمد ؟ * وكيف تبيت في دمنهور وهي لا تعرف فيها أحدا ً علي الإطلاق؟ . * لقد ذهبت هي ومن معها إلي محطة القطار وهناك جاءتها الفكرة أن تبيت هي ومن معها من النسوة في المحطة.. فاستأذنت رئيس المحطة أن يبيتوا في استراحة القطار وأن يغلقن الباب عليهن بالليل.. ونظفوا المكان ثم افترشوا الأرض والدكك الخشبية وناموا عليها حتي الصباح. * لقد كانت أمي تدعو طويلا ً وكثيرا ً ¢ يا رب لا تمتني حتي أري ابني ناجح في الحرية¢ * وكنت أنا أدعو كثيرا ً أن أدركها وأبي في الحرية قبل الممات وأرد بعض جميلها.. وكنت أقول كيف سأرد لها هذا الجميل العظيم.. كيف أوفيها بعض حقها وفضلها.. وأخيرا ً وجدتها.. فقلت لنفسي: أمي لم تحج حتي الآن.. وأعظم هدية أقدمها لها أن أتولي ذلك. * وجاءت الفرصة سانحة فتيسر لي أمر الحج وجمعت كل ما أملك وكل ما استطعت جمعه من نتاج بيع كتبي.. وبشرتها بالخبر السعيد الذي كادت أن تطير به فرحا ً.. فإمكانيات والدي المادية وقتها لم تكن تسمح لها بالحج.. وكل ما صرفه من مكافأة نهاية خدمته الحكومية التي وصلت قرابة 40 عاما ً مكنته بالكاد أن يحج هو. * فقلت: ¢الآن جاء دوري لأن أعيش مع أمي في أطهر مكان.. وأن أسعد بصحبتها بعد طول فراق¢.. وخاصة أنني تركت بلدتي في الصعيد وعشت في الإسكندرية.. وكان من أسباب ذلك الإشفاق الكبير عليها.. فقد كانت تخاف عليَّ بعد خروجي من المعتقل وكأنني طفل صغير.. إذا تكلمت مع صحفي تقول : ¢يا بني خليك في حالك ولاد الحرام كثير¢.. وإذا تحدثت في الدعوة والدين تقول: ¢يا بني لا نريد مشاكل مع الحكومة¢. * وإذا سافرت من بلدتي وعلمت بذلك: ¢ يا بني سايق عليك النبي لا تروح هنا ولا هنا إن كنت تحبني ¢. * فقلت: أعيش في الإسكندرية حيث نشأ أولادي.. ففلا أغضب أمي وأكسب دعوتي ورسالتي وأعمل ما أشاء دون إزعاجها. * لقد كانت تعتبرني وأنا في الخمسين من عمري طفلها الصغير الذي تخاف عليه وتخشي عليه الغوائل.. رغم قوة إيمانها وثبات يقينها.. فإذا رأتني بعد الثورة في إحدي القنوات الفضائية أو في الصحف سعدت من داخلها ولكنها تقول: ¢ يا بني يقطع الجرايد والقنوات وسنينها.. مالنا إحنا ومالها ¢.. فأطيب خاطرها.. فتضحك وتمضي الحياة صافية. * وكانت رحلة الحج مع أمي أغلي فترة عشناها سويا ً منذ أكثر من ربع قرن.. قرابة شهر كامل لم نفترق.. لم أشأ أن تأكل مع النساء.. فكنت أحضر الطعام في الفندق ونأكل سويا ً.. أو نأكل في ساحة الحرم.. أو في المطاعم الفاخرة في مكة والمدينة.. شعرت أنها أغلي الأيام وأحلاها وأجملها.. كنت أدفع الكرسي المتحرك الذي تجلس عليه في الطواف بسعادة غامرة.. فكم حملتني قبل ذلك ؟.. وكم آوتني.. كم ضحكنا سرورا ً.. وكم خشعنا وبكينا.. كم دعونا دعاء ً طويلا ً..وكلانا يؤمن علي دعاء الآخر.. كان لسانها متدفقا ً بالدعاء لكل الناس.. لا تكره أحدا ً ولا تدور حول ذاتها. * إنها أيام الحب الخالص لله سبحانه ولرسوله "صلي الله عليه وسلم" ولأمي.. وهي أعظم من وجدتها تحب الله ورسوله وإيمانها وتقواها وصلاحها أعظم مني ملايين المرات.. ازدريت إسلامي إلي جوار إسلام هذه المرأة البسيطة.. وعبادتي إلي جوار عبادتها.. لقد ظلت تصوم الليل حتي آخر عمرها.. لم تأكل لقمة واحدة من الحرام.. تحسن إلي جيرانها.. يفيض حبها علي الجميع.. تتحدث عن الجميع بالخير.. لم أرها تكره أحدا ً.. ولم أجد أحدا ً يكرهها آه يا أمي.. أنت الإسلام بحق وأنا العملة المزيفة.. فكم من عوام المسلمين من هو أفضل إسلاماً وأعظم يقينا ًوتوكلا ً من أكابر الدعاة والوعاظ.. رحمك الله يا أمي.. يا من تعلمت ومازلت أتعلم منك الكثير.