كلما قلت للاندونيسيين: مصر هي أم الدنيا.. قالوا: نعم ولكن اندونيسيا هو أبو الدنيا كلها ففيها ثلاث عشرة ألف جزيرة يسكنها مائتان وثلاثون مليون اندونيسي رغم ميل السكان لتنظيم النسل من تلقاء أنفسهم.. فالأسرة الاندونيسية خاصة في المدن تنجب اثنين فقط وتكتفي بذلك.. وفيها مائتان من الجامعات الحكومية وثلاثة آلاف جامعة أهلية. وقد سافرت إلي اندونيسيا بدعوة من جمعية العلماء ووزارة الشئون الدينية.. فاسترحت هناك من عناء متابعة الصراع السياسي المصري الذي لم يترك بيتا إلا دخله وأدخل فيه الهم والحزن والكآبة.. وسعدت بترجمة بعض كتبي إلي اللغة الاندونيسية وعودتي مرة أخري إلي مهمة الدعوة إلي الله في أجمل بلاد الله. أنت في اندونيسيا لا تري إلا الخضرة.. تراها مد البصر.. لا نهاية لها.. ليست هناك بقعة صفراء واحدة في جزر اندونيسيا.. ولولا الإسفلت - كما قال لنا كل من زار اندونيسيا من قبل- لما رأيت لونا آخر سوي الخضرة. إنك تري أشجار الموز والمانجو والأناناس علي جانبي الطريق العام.. وعلمت أنها تنبت وحدها لأن الأمطار هنا طوال العام بلا انقطاع. والمناخ حار في العام كله وشبه موحد في كل الفصول لأنها تمر بخط الاستواء.. ولو ألقيت أية بذور في أي مكان لوجدتها بعد عدة سنوات أشجارا عالية مثمرة دون عناء.. أنها جنة الله في أرضه حقا.. فالخضرة علي رءوس الجبال .واندونيسيا تتكون من 13 ألف جزيرة.. وهناك جزر ليس لها اسم وغير مأهولة حتي اليوم.. ويتكلم السكان هناك 630 لغة وهناك سبعة أديان هي علي الترتيب في الانتشار: الإسلام وتدين به الغالبية العظمي من السكان.. ثم البروتستانت فالكاثوليك فالبوذية فالهندوسية فالوثنيون.. والوثنيون قلة قليلة هناك ولكن الجميع يعيش في سلام ووئام. فالاندونيسي دائم البسمة مهما كان منصبه هو يبتسم ويرحب بك باستمرار.. وكل شيء يبدأ في الصباح الباكر حتي المحاضرات والندوات لا تكون ليلا أبدا وكلها تقام في الثامنة صباحا والمؤتمرات كذلك.. بل وحفلات التخرج من الجامعة.. فقد رأيت الآباء والأمهات وهم يلتقطون الصور سويا مع أبنائهم في السادسة والنصف صباحا ًاستعداداً لحفل التخرج من الجامعة الذي كان يقام في الفندق الذي أقيم فيه.. وكانت لنا مع دعاة آخرين من الشرق الأوسط محاضرة في الجامعة الاندونيسية في الثامنة صباحاً. وإذا ركبت التاكسي أو الأتوبيس في السادسة أو السادسة والنصف صباحاً رأيت الشوارع مزدحمة عن آخرها.. وكأن اندونيسيا كلها خرجت إلي الشارع. وكل اندونيسي لديه موتوسيكل تقريبا.. حيث أنه أهم وسيلة مواصلات يركبه الزوج مردفا وراءه زوجته وتركبه المرأة لتصل إلي عملها وتردف ولديها خلفها لتوصيلهما إلي مدارسهما ولتعيدهما مرة أخري إلي المنزل. ورغم وجود الأشجار وتساقط أوراقها فلا تري ورقة واحدة علي الإسفلت فالشوارع والأشجار تغسلها الإمطار كل يوم تلقائيا. لم أر شجرة واحدة في الأرياف التي مررت عليها سبع ساعات بالقطار عليها ذرة تراب لأنها تغسل في كل يوم بالأمطار.. ولم أر راكب موتوسيكل واحد لا يلبس الخوذة أو يخرق إشارة المرور حتي المرأة تلبس الخوذة هناك.. فالقانون هناك صارم ويلتزم به الناس من تلقاء أنفسهم. والأتوبيس العام مكون من أتوبيسين مدمجين مثلما في تونس وله محطات وطريق خاص به لا تمر به أية سيارات أخري حتي لا يتأخر أبدا في وقت الزحام والذروة. قلت في نفسي إن هذه البلاد يسكنها مائتان وثلاثون مليونا مختلفون في كل شيء في الأديان واللغات والأعراق.. فهناك من أصله عربي وهناك من أصله صيني وهم أغني السكان والمتحكمون في المال والتجارة والاقتصاد.. وهناك المالاويون وهم من جزر الهند الصينية.. فكيف يعيش هؤلاء جميعا ًبهذه الروح الجميلة والرئيس ونائبه من المسلمين؟ والعطلة الأسبوعية هي الأحد وليس الجمعة دون أن يحدث ذلك صراعات ومشاكل.. حتي أنني تحدثت مع الكثير من العلماء الاندونيسيين الحاصلين علي الدكتوراه والماجستير في الشريعة فقالوا: هذا أمر عادي ما دمنا نأخذ وقتنا لصلاة الجمعة فلا حرج.. حيث إن الأصل في يوم الجمعة العمل:¢ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ¢. وقد تولت السيدة ميجاواتي رئاسة الجمهورية منذ فترة وكانت هناك اعتراضات دينية من بعض العلماء علي تولية المرأة.. ولكنها اعتراضات فكرية مهذبة لا تخرج إلي دائرة الصراع والحرب أو حتي الشتائم والتخوين. ويوم الأحد تخرج الأسر الاندونيسية - حتي المسلمة منها - إلي الميادين العامة لتملأها وتتمتع بالإجازة الأسبوعية ويمنع مرور السيارات في بعض الطرق يومها لتترك للرياضة والجري. قلت في نفسي: ما هذا الشعب الطيب؟.. وأين نحن منه؟.. ونحن إذا لم نجد سببا للصراع السياسي خلقنا له سببا.. وأدرنا معارك لا أول لها ولا آخر في غير ميدان. وقلت: هل هؤلاء أفضل منا وأحكم منا وأحلم منا؟ الناس في اندونيسيا لا يهتمون بالسياسة كثيرا هم يهتمون بعملهم قبل كل شيء ويعتبرون أن الإنسان هو مناط التغيير وليس الحاكم. وعلاقة الاندونيسي بالحكومة نادرة.. فالأرض واسعة ولديه بيته الريفي ولو أراد الفلاح لبني عدة بيوت في أرضه. وهو يزرع الأرز حتي أمام بيته وكذلك الخضار والفاكهة ولديه وسيلة مواصلاته الخاصة به.. وقد يربي مواشي وغيرها دون أية مشاكل.. فلا صراع بينه وبين أحد ولا تداخل بينه وبين الحكومة. انه سلام النفوس الذي نفتقده في مصر ومازال أمامنا الكثير حتي نحققه.. فنحن نعيش في وهم مصر القائدة والرائدة.. ونحن في ذيل الأمم الآن في كل شيء. فأين مصر الصفراء رغم امتلاكها لنهر النيل من اندونيسيا التي تعتمد علي الأمطار فحسب؟. وأين مصر المتصارعة مع نفسها من اندونيسيا المتسامحة مع نفسها؟ اندونيسيا صنعت ثورتها الخاصة بها من داخل الإنسان ومن المجتمع دون أن تراق الدماء ودون أن تحرق الأخضر واليابس.. فالناس هم الذين غيروا أنفسهم بأنفسهم وصنعوا سلاما لأنفسهم مع أنفسهم.. فكان هذا الجمال والنظام الذي يبهر الجميع.