■ عشت أسبوعاً فى إندونيسيا الرائعة التى لا تجد فيها مكاناً للصحراء ولا للون الأصفر.. فهى كلها خضراء.. وأحببت أن أنقل بعض ما خرجت به من هذه الرحلة للقراء الأعزاء. ■ كلما قلت للإندونيسيين: مصر هى أم الدنيا، قالوا: نعم، ولكن إندونيسيا هى أبو الدنيا كلها، ففيها 13 ألف جزيرة يسكنها 230 مليون إندونيسى رغم ميل السكان لتنظيم النسل من تلقاء أنفسهم، فالأسرة الإندونيسية خاصة فى المدن تنجب 2 فقط وتكتفى بذلك، وفيها 200 من الجامعات الحكومية و3000 جامعة أهلية. ■ وقد حاضرت مع آخرين لطلبة كلية الدراسات الإسلامية ودراسات الشرق الأوسط، وكان معظم الحاضرين من طلاب البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وحضرها بعض أساتذة الكلية الذين تخرجوا أو زاروا مصر والأردن والسعودية، وكانت المحاضرة بعنوان «الإسلام دين الحوار والسلام». ■ لولا الأزهر الشريف ما كان هناك أى حضور لمصر فى الوقت الحالى فى إندونيسيا، فمصر غائبة الآن، وطوال عهد مبارك كانت مصر غائبة تماماً عن إندونيسيا، رغم أن جميع الإندونيسيين هناك ذكرونى أن مصر «جمال عبدالناصر» هى أول دولة اعترفت باستقلال إندونيسيا، وأن الرئيس «عبدالناصر» جاء لمؤتمر عدم الانحياز هنا فى «باندونج»، وأن الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق (رحمه الله) طلب من الحكومة الإندونيسية إطلاق اسم الأزهر على أكبر مساجد إندونيسيا فتمت الاستجابة له فوراً. ■ وأن الشيخ «بويا حمكة»، العالم الإندونيسى الذى تخرج وحصل على دراساته العليا من الأزهر الشريف، أطلق على تفسيره للقرآن اسم «تفسير الأزهر الشريف»، وهو أهم كتاب للتفسير باللغة الإندونيسية، ويقع فى 15 مجلداً. ■ وكل الذين ترجموا للمحاضرات التى ألقيناها والمناقشات خلال الندوات هم من الحاصلين على الماجستير والدكتوراه من جامعة الأزهر، وهم الذين رافقونا فى كل جولاتنا الدعوية. ■ والقناعة التى خلصت إليها خلال هذه الرحلة الثرية أنه لولا جامعة الأزهر ما عرفت إندونيسيا اللغة العربية، وأنه لولا الأزهر و«عبدالناصر» والشيخ عبدالباسط عبدالصمد ما ارتبطت إندونيسيا بمصر. ■ فى كلمة نائب وزير الشئون الدينية فى الجامعة الإندونيسية قال شيئاً طريفاً: «كان المتطرفون فى إندونيسيا قديماً يمنعون قنوت الفجر فى مساجد (نهضة العلماء) ويخوضون المعارك من أجل هذا الأمر المختلف عليه، لأنهم لا يفرقون بين ما ينبغى فيه الخلاف وما لا ينبغى، ولكن اليوم هم يأخذون المسجد كله ويطردون علماء الوسطية من (نهضة العلماء) الذين تربوا ونشأوا على وسطية الدين التى تعلموها من الأزهر الشريف». ■ والمصيبة أن الفكر الوسطى الأزهرى بدأ ينحسر عن إندونيسيا ليحل محله التشدد تارة، وفكر التكفير تارة أخرى. ■ إننى لم أعرف أهمية وقدر وقيمة الأزهر الوسطى إلا فى هذه البلاد، ولكن الأزهر عندنا أغرقه الجميع فى صراعات سياسية ومذهبية وفكرية لا ناقة له فيها ولا جمل، وإنا لله وإنا إليه راجعون! ■ إننا نضيِّع كل شىء بأيدينا، ولا نضيع بلادنا فحسب ولكن نضيع بلاد المسلمين كلها. ■ آه يا شعب مصر الذى أصيب بالاستقطاب الحاد وأصبح يشتم ويخون ويفسق كل من يخالفه الرأى السياسى! ومن أراد أن يتأكد من ذلك فليقرأ تعليقات المصريين على المقالات والأخبار، ويقارن ذلك بأدب وأخلاق الشعب الإندونيسى الذى ينحنى لك حينما يقابلك باحترام كبير. ■ لاحظت ملاحظة عجيبة فى هذا البلد؛ فجميع الوجوه لا تفارقها البسمة، والبساطة هى الأصل فى كل شىء، حتى رئيس الجامعة وعميد الكلية وأساتذة الكلية يرتدون ملابس بسيطة جداً لا يقبل أى شاب فقير عندنا أن يرتديها، إنه التواضع مقابل الفرعونية المقيتة لدى أكثرنا. ■ المسلم العادى فى إندونيسيا متدين بالفطرة ودون «أَدْلَجَة» أو تحزب أو انتماءات حزبية أو سياسية، إنه إيمان العوام الذى تمنى أن يموت عليه حجة الإسلام أبوحامد الغزالى حينما قال: «يا ليتنى أموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور!». ■ هذا العامى البسيط الإندونيسى لا يعرف الأحقاد ولا الضغائن ولا التحزب ولا السياسة بطبعه، فهو فى جزر بعيدة عن العاصمة، وأقرب هذه الجزر إليها تبعد عنها ثمانى ساعات بالقطار السريع. ■ ما أحوجنا فى مصر إلى إسلام العوام! وما أحوج الحركة الإسلامية أن تعود إلى هذا الإسلام الفطرى، ليعيش كل منا «مَخْمُوم القلب» كوصف الرسول (صلى الله عليه وسلم) للقلب الذى لا يحمل غلاً ولا حقداً ولا ضغينة لأحد.