أواصل مع حضراتكم حديثنا عن الأخوة الصادقة بين المؤمنين ودورها في بناء الأمة الإسلامية وكنا توقفنا في المقال السابق عند الحق الأول من حقوق الأخوة ونواصل اليوم الحديث عن الحق الثاني: التورُّع في القول وحُسن الظن بالأخوة. سبحان ربي العظيم! قد لا يتورع الأخ عن أكل لحم أخيه. في الوقت الذي تري عنده تورعاً باهتاً عن أكل الحلال. إن الكلمة خطيرة يا إخوة. والله عز وجل يقول: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" "ق:18" من: التبعيضية. والنبي صلي الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة: "إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات. وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في جهنم" فالكلمة خطيرة. فمن حق أخيك عليك أن تتورع عنه في القول. وأن تحسن الظن به "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" الحجرات: 12. والرسول صلي الله عليه وسلم يقول: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" من حقي عليك ومن حقك عليَّ أن أُحسن في حقك القول. وألا آكل لحمك وأنهش عرضك بعد أن تفارقني. ربما يجلس الأخ مع أخيه في مجلس واحد. وبمجرد أن يعطي الأخ لأخيه ظهره يطعنه بكلمات. والكلمة شديدة. ربما تكون الكلمة الكلمة أخطر من السيف.. فبالكلمة قد تهدم البيوت. وتتحطم الأسر. بل وتثار المشاكل بين الدول والأمم بكلمة. سواء كانت الكلمة مقروءة. أو مكتوبة. أو مسموعة. أو مرئية. أو مرسومة. إن ترك الألسنة تلقي التهم جزافاً دون بيِّنةي أو دليل يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقول ما شاء في أي وقت شاء. ثم يمضي آمناً مطمئناً. فتصبح الجماعة وتمسي وإذا أعراضها مجروحة وسمعتها ملوثة. وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام. وهذه حالة من القلق والشك والريبة لا تطاق بحال من الأحوال. ولذلك روي النسائي بسند صحيح أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان أي تذل له وتخضع وتقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك. فإن استقمت استقمنا وإن إعوججت اعوججنا" وفي رواية الطبراني في الأوسط بسند صححه الألباني بمجموع طرقه في صحيح الجامع أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "الربا اثنان وسبعون باباً. أدناها مثل إتيان الرجل أمه. وإن أربا الربا استطالة الرجل في عرض أخيه" انظروا إلي خطر الكلمة. فالكلمة خطيرة أيها الأحبَّة. فمن حق الأخ علي أخيه أن يتورع عنه في القول. فبكل أسف قد يتورع المسلم عن أكل الحلال فيسأل هذا الشيء مستورد أم محلي؟ ورعى جميلى محمود. لا أقلِّل من شأنه أبداً. لكن الذي أقلِّل من شأنه أن تري هذا التورُّع في هذا الجانب. الذي ربما يكون فيه الطعام حلالاً. ولا تري عُشر معشار هذا التورُّع عن أكل لحم الإخوة من المسلمين والمسلمات. فمن حق الأخ علي أخيه التورع في القول وتزداد الكارثة والمأساة حينما يؤكل لحم العلماء. أئمة الهدي مصابيح الدجي. والشموع التي تحترق لتضيء للأمة طريق نبيهاً. فقد تري شبلاً صغيراً من أشبالنا لم يتربَّ إلا علي التصنيف. لم يتربَّ علي القرآن ابتداءً ولا علي السُنَّة. فخرج متأسداً متنمراً لبعض المسائل العلمية التي حفظها. فيتأسد علي العلماء. وينتهك لحم وأعراض العلماء. فتسمع من يسيء إلي أئمة المسلمين في هذا الزمان. ولله دُر الحافظ ابن عساكر إذ يقول: "اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته. وجعلني الله وإياك ممن يخشاه ويتقيه حق تقاته. اعلم بأن لحوم العلماء مسمومة. وأن عادة في هتك أستار منتقصيهم معلومة. وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب بلاه الله قبل موته بموت القلب". الحق الثالث: التناصح روي مسلم في صحيحه من حديث تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة انظروا إلي هذه البلاغة النبوية قلنا: لمن يا رسول الله؟ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".. يا أخي! أنا لست ملكاً ولا نبياً. أنا بشر وكل بني آدم خطَّاء. فمن حقي عليك إن أخطأتُ أنا أن تنصحني. وأن تقترب مني وأن تبذل لي النصيحة. لا أن تظل بيداً عني لتصدر الأحكام عليَّ بالتكفير أو التفسيق أو التدبيع. وإنما أدن مني واقترب. وابذل الحق الذي عليك لي. وانصحني بشروط النصيحة وآدابها. بتواضع بحكمة. برحمة. بأدب. بخلق.. وأرجو من شبابنا وطلابنا أن يفرقوا بين مقام الدعوة ومقام الجهاد. فمقام الدعوة أيها الأحبة من الألف إلي الياء. ولو كانت الدعوة لأكثر أهل الأرض.. مقام الدعوة: الحكمة والرحمة واللين والتواضع. هذه آداب النصيحة. قال الله عز وجل لإمام الدعاة وسيد الأنبياء محمد صلي الله عليه وسلم : "ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" النحل: 125. ما هي الحكمة؟ قال ابن القيم: الحكمة هي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي علي الوجه الذي ينبغي. وركانها: العلم والحلم والأناة. وافاتها وأضدادها ومعاول هدمها: الجهل والطيش والعجلة.. بحكمة ورحمة قال الله لسيد الدعاة: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" آل عمران: 159. يا أخي! انصحني برحمة. لا تكن غليظاً ولا شديداً عليَّ. اسمع أحد إخواننا ينصح مسلماً وهو بعد أن سمع الأذان. وإذا بالأخ يريد أن ينصح أخاه بالصلاة فيقول له: صلي يا حمار. فسمعت الكلمة واقتربت منه. قلت: يا أخي! إن الله لم يفرض الصلاة علي الحمير. ففطن. إذا: هذه ليست دعوة. وليست نصيحة. انصح أخاك برحمة. أشعر من تنصحه أنك رحيم به حليم تخشي عليه. وهذا من حقه عليك.. يأتي شاب للنبي عليه الصلاة والسلام والحديث في مسند أحمد بسند جيد. ويستأذن رسول الله والله ما استأذنه للخروج إلي الجهاد ولا البذل ولا الخروج إلي الدعوة وإنما جاء ليستأذن النبي في الزنا: "أتأذن لي يا رسول الله! في الزنا؟ فقال الصحابة: مه مه! فقال له: ادن اقترب وبلغة نبوية رحيمة. يقول له المصطفي المعلم والمربي والأسوة والقدوة: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم. أتحبه لأختك..؟ أتحبه لعمتك..؟ أتحبه لخالتك..؟ لا والله يا رسول الله! جعلني الله فداك. قال: وكذلك الناس" ومع ذلك رفع النبي يده ووضعها علي صدر هذا الشاب ودعا له. الذي جاء يطلب الزنا دعا له النبي صلي الله عليه وسلم فقال: "اللهم اشرح صدره. واغفر ذنبه. وطهِّر قلبه. وحصِّن فرجه" فانطلق الشاب ولا يوجد شيء علي الأرض أبغض إليه من الزنا.