توقفت معكم في المقال السابق عند قصة بناء البيت بإيجاز شديد في قوله جل وعلا: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتي وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ. وبكة هي مكة. وسميت مكة ببكة لشدة الزحام. فالبك هو الازدحام. والبك أيضاً دق العنق. وقيل سميت بذلك لأن مكة تدق فيها رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم. كما قال عبد الله بن الزيد لم يقصدها جبار بسوء قط إلا كسره ودقه وحادثة الفيل لا يجهلها مسلم بحال وقد جعلها الله قرآنا يتلي إلي يوم القيامة كما قال الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلي * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةي مِّن سِجِّيلي فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفي مَّأْكُولي. ¢إِنَّ أَوَّلَ بَيْتي وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًي لِّلْعَالَمِينَ ¢ والبركة كثرة الخير وقد جعل الله البيت مباركاً لتضاعف الأعمال الصالحة فيه كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ¢صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام¢"14". فيه آيات بينات مقام إبراهيم والمقام في اللغة موضع القدمين. والقول الصحيح كما ذكرنا إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم لتم البناء فغاصت فيه قدماه. وهو الذي نراه اليوم مواجهاً لباب الكعبة شرفها الله. وكان المقام لصيقاً بالبيت حتي أخره إلي مكانه الذي فيه الآن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ليسهل للطائفين طوافهم. ¢ومن دخله كان آمنا¢. قال قتادة: وذلك أيضاً من الآيات لأن الناس كانوا يتخطفوا من حواليه وأهل الحرام آمنون بفضل الله. كما أمتن الله عليهم بذلك في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ¢"15" وفي قوله تعالي: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعي وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفي "16". وقال بعض أهل اللغة في قوله تعالي: ي¢ومن دخله كان آمنا¢ صورة الآية خبر ومعناها أمر فتقديرها ومن دخله فأمنوا كقوله تعالي: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ. أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا في الحج. وقال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن الكريم: وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظماً له عارفاً بحقه متقرباً بذلك إلي الله عز وجل وقال أحدهم: من دخله علي الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذاب الله وهذا معني قوله : كما في الحديث الصحيح: ¢من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه¢ وفي رواية صحيحة أخري: ¢الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة¢ فِيهِ آيَاتى بَيِّنَاتى مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَي النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيّى عَنِ الْعَالَمِينَ . وهذه الآية الكريمة من أبلغ الآيات في فرضية الحج فاللام في قوله تعالي: ¢ولله¢ هي لام الإيجاب. والإلزام. ثم أكد الله الأمر بقوله ¢علي الناس¢ ولا خلاف في فرضيته. فهذا أحد أركان الدين وقواعد الإسلام. ومن رحمة الله بهذه الأمة أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة لمن استطاع. كما في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن ابي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: ¢يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا¢ فقال رجل: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت حتي قالها ثلاثاً. فقال النبي:¢ لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم علي أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه¢. ¢وهذا لفظ مسلم¢. ¢لمن استطاع إليه سبيلا¢ فمن يسر الله له الاستطاعة وجب عليه أن يعجل. وأن يبادر بحج بيت الله عز وجل. كما في الحديث الذي رواه أحمد وأبن ماجه من حديث ابن عباس أن النبي قال: من أراد الحج فيتعجل فإنه قد يمرض المريض وتضل الراحلة وتعرض¢. وفي رواية لأحمد قال رسول الله: تعجلوا إلي الحج "يعني الفريضة" فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له¢ ومن حدود الاستطاعة للمرأة المسلمة أن يوجد المحرم حتي ولو كانت تحج حجة الفريضة. فلقد نهي النبي نهياً صريحاً شديداً أن تسافر المرأة المسلمة إلا مع ذي محرم. ومن عظيم اهتمام النبي بهذا الأمر أن رجلاً خرج مجاهداً في سبيل الله وخرجت امرأته حاجه وحدها بغير محرم وجاء يسأل النبي فأمره النبي أن يرجع عن الجهاد وأن يخرج ليحج مع امرأته حتي لا تذهب بغير محرم ففي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي يخطب. يقول: ¢لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم. ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم¢ فقال رجل فقال: يا رسول الله. إن امرأتي خرجت حاجة. وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال:¢ انطلق فحج مع امرأتك¢. وفي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي . ¢لا يحل لأمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو حرمة منها¢. وقد ضيع المسلمون والمسلمات إلا من رحم الله هذا الأمر النبوي الكريم ..!! ومنهم والعياذ بالله من جادلك في هذا الأمر في عصر الحضارة والمدنية الزائفة الذي تسمح فيه للمرأة أن تخرج للعمل أو للسفر بدون محرم..!! وإنا لله وإليه راجعون. ويختم الله الآيات بقوله: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيّى عَنِ الْعَالَمِينَ قال ابن عباس ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجباً فإن الله غني عن العالمين لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.