لم تكن مفاجأة أن يتردد علي مكتبي زملاء اعزاء وأصدقاء كبار.. وتتوالي في الوقت نفسه اتصالات عبر الهاتف خلال الأيام الماضية كلها تسأل بحرقة.. نحن في حيرة شديدة.. لم نعد نعرف علي وجه اليقين.. هل نحن علي الحق أم علي الباطل؟ أي الفريقين علي صواب.. من يملك الحقيقة..؟ عقولنا تكاد تشت ولا نجد إجابة شافية.. لدينا إحساس أن الكل يكذب علينا.. رغم أن كل واحد يؤكد أنه علي حق.. لماذا يتركون الأمور معلقة؟.. لماذا لا يحسمون الموقف حتي يرتاح الناس ويعلموا الحق من الباطل.. ويعرفون المفسد من المصلح..؟ والناس معها حق.. فكما سقطت كل الأطراف في دوامة الشرعية وتحصن كل طرف حول شرعيته وتمترس خلفها بل مستدعيا ومستنجدا ومستغيثا باعتراف خارجي اكبر واقوي لعل وعسي.. سقطت الجماهير أيضاً في دوامات الحيرة والبلبلة التي تقودها باقتدار وسائل وجبهات إعلامية غريبة وعجيبة.. معظمها إن لم يكن كلها تقطر غلا وحقداً وشماتة واستعداء وتحريضا آناء الليل وأطراف النهار.. ويمكن اعتبار حالة الحيرة التي يعيشها الناس ويعبرون عنها بكل صدق دليلا علي الفشل الإعلامي الرهيب وعدم القدرة علي اقناع الناس وتوصيل الحقائق المهمة إليهم رغم تهيئة كل الظروف والإمكانيات وتجريف الأجواء من حولهم وإخلاء الساحة لهم ومنحهم الحق الحصري للنشر واحتكار البيانات والتصريحات عما يجري وما لا يجري أيضا.. وزاد الطين بلة تلك المواقف المائعة من أمريكا ومعها الدول الغربية.. المتأرجحة والمترددة في إعلان موقف صريح وواضح.. صباحا مع هؤلاء ومساء مع أولئك.. تصريحات مائعة وكلمات ملتبسة وتوضيحات أكثر غموضا وإثارة.. وزيارات تسمع معها ضجيجا وجعجعة ولا تري طحنا.. قلت إن المشكلة الأكبر يمكن إيجازها في إهمال أو البعد عن قاعدة مهمة وهي غياب الاخلاص بشكل عام لدي جميع الأطراف وسيطرة حسابات المكاسب والخسائر.. ولأول مرة الأخذ في الاعتبار حسابات الشماتة من الطرف الآخر.. دون أدني اعتبار للحق والعدل والمصلحة الوطنية.. ولعل ما يثير الغيظ أيضاً ذلك الفشل الذريع من جانب كل القوي في استثمار شهر رمضان المبارك وأجوائه الروحية في تحقيق اختراق حقيقي وفعال علي صعيد المصالحة الوطنية.. والسعي نحو جمع الفرقاء علي مائدة الحوار.. الأمر الذي يدعونني إلي الجزم بأن نوايا واتجاهات التصعيد هي الحاكمة والمسيطرة.. وأن الاستجابة لدواعي العناد وأن الرغبة في كسر أنف وإذلال الطرف الآخر كانت هدفا تسعي إليه وتغذيه وتحرص عليه قوي وأطراف أخري تلعب علي كل الحبال وتريد الموقف متصاعدا مستمرا في الاشتعال.. للأسف مرت مناسبات عديدة لم نغتنمها.. وغاب الحكماء أو غيبوا سواء بتقصير منهم أو بفعل فاعل.. ولم يدر هؤلاء وأولئك أن الوضع كلما طال ستستمر الأوضاع السيئة بل ستزداد سوءا.. ومما يغيظ أكثر أن الجميع يعلم يقينا أنه لا سبيل ولا مخرج إلا الحوار والمصالحة وضرورة الاستيعاب الحقيقي لكل أبناء المجتمع مهما كانت مواقفهم وانتماءاتهم.. وأن التحريض لا يولد إلا التحريض والاستفزاز والعنف ليس له من نتيجة إلا الدمار والخراب.. قلت أيضاً للأسف ونحن في أجواء الشهر الفضيل نعيش أزمة اخلاص ومخلصين.. أزمة اخلاص في العمل من أجل هذا الوطن ومستقبله ومستقبل أبنائه.. أزمة اخلاص للمبادئ والقيم الرفيعة التي أقرها الدين الحنيف.. أزمة اخلاص لأرواح الشهداء.. ولحرمة الدم المصري في كل زمان ومكان.. أزمة اخلاص في الحب علي مختلف المستويات.. ابتداء من حب الوطن وحتي الحب علي المستوي الإنساني.. الإنسان لأخيه الإنسان.. لدينا أزمة اخلاص حتي في قراءة الواقع وتكييفه القانوني أو حتي الثوري.. أزمة اخلاص حتي في فهم الدين والتعامل معه وبه.. والتي جرت وراءها اتهامات عدة بالمتاجرة بالدين واستغلاله وتوظيفه لخدمة الأهداف والمصالح الضيقة.. أزمة اخلاص في العلاقة مع الله تعالي والتي كان من نتيجتها عدم التوفيق واستمرار الخذلان والتخبط والارتباك.. إننا بحاجة إلي أن نتعلم جميعا الاخلاص ونتمسك به منهجا وسلوكا.. نحتاج أن نعرف الاخلاص ونعمل به لأنه سيفسح المجال وكل الطرق نحو كل هدف نبيل.. نحتاج أن نعرف ونعلم أن علو الهمة في الاخلاص.. لأننا أصبحنا كما قال بعض العارفين: أعربنا في القول.. وأخللنا في العمل.. حتي أصبح إخلاصنا يحتاج إلي إخلاص. وأن العبد إذا عمل العمل بدون إخلاص فهو لا ينفعه. قال ابن القيم ¢العمل بغير إخلاص ولا اقتداءي كالمسافر يملأُ جرابه رملاً ينقله ولا ينفعه¢. وأن الإخلاص هو الأساس في قبول الأعمال والأقوال. وأنه الأساس في قبول الدعاء. وأنه بالإخلاص ترتفع منزلة الإنسان في الدنيا والآخرة. وبالإخلاص يذهب عن النفس وساوس الأوهام. وأنه يحرر العبد من عبودية غير الله. وبالإخلاص تقوي العلاقات الاجتماعية. ويفرج شدائد الإنسان في الدنيا. وبه يحقق الطمأنينة لقلب الإنسان ويجعله يشعر بالسعادة. ويقوي الإيمان ويكره إليه الفسوق والعصيان. وهو يقوي عزيمة الإنسان وإرادته في مواجهة الشدائد. وبه يحصل كمال الأمن والاهتداء في الدنيا والآخرة.. ** وردت مادة الإخلاص ومشتقاتها في كتاب الله تعالي: إحدي وثلاثين مرة.. ** جاء أعرابي إلي النبي الكريم صلي الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله أوصني ولا تكثر لأحفظ؟ فقال له الحبيب صلي الله عليه وسلم: "أخلص دينك لله يكفك العمل القليل". وفي رواية أخري ان النبي عليه الصلاة والسلام قال: يا معاذُ. أخلص دينك يَكفِكَ القليلُ من العمل. عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّي اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَحَفِظَهَا وَبَلَّغَهَا. فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهي إِلَي مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ. ثَلاثى لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمي: إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ. وَمُنَاصَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ. وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ. فَإِنَّ الدَّعْوَةَ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ.. وقال سهل بن عبد الله التستري: ¢ليس علي النفس شيء أشق من الإخلاص. لأنه ليس لها فيه نصيب¢. - الإخلاص مِسك القلب. وماء حياته. ومدار الفلاح كلّه عليه. روي ابن ماجة عن عبد الله بن عمرو: قيل يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال كل مخموم القلب صدوق اللسان.. قيل صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال التقي النقي لا أثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد.. وقال بعض السلف: ¢من سلم له في عمره لحظة واحدة خالصة لله تعالي نجا¢. وقال بشر الحافي: ¢لأن اطلب الدنيا بمزمار أحب إلي من أن اطلبها بالدين¢. قال الفضيل بن عياض: ¢ترك العمل من أجل الناس رياء. والعمل من أجل الناس شرك. والإخلاص أن يعافيك الله منهما¢. قال مكحول: ما أخلص عبد 40 يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه علي لسانه.. قال أبوسليمان الداراني: إذا أخلص العبد انقطعت عنه كثرة الوساوس والرياء.. قال يوسف بن الحسين: كم أجتَهِد في إسقاط الرياء من قلبي فينبت لي علي لوني آخر.. ¢اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه. وأستغفرك مما جعلته لك علي نفسي ثم لم أف لك به. وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.. اللهم أجعل أعمالنا خالصة لوجهك صواباً علي سنة رسولك يا رب العالمين.