* جاءني صوتها عبر الهاتف غاضبا ً ثائرا ً متعجبا ً : هل يرضيك أن يذهب ابني طبيب الأسنان حديث التخرج إلي سوريا دون أن يخبرني إلا برسالة sms وهو في الطائرة .. فهل ربيته وعلمته بعد وفاة والده ليفعل بي ذلك .. فقد مكثت فترة لا أعرف عنه شيئا ً حتي تواصلت معه تليفونيا ً بعد جهود مضنية .. قلت لها إنه نسي أن شابا مثله جاء إلي رسول الله " صلي الله عليه وسلم" في إحدي غزواته فقال له صلي الله عليه وسلم:¢ ألك والدان ؟.. قال : نعم .. قال : ففيهما فجاهد ¢. * إنه نسي فقه الأولويات الذي يقدم بر الوالدين وهو فرض عين علي الجهاد في سبيل الله إذا كان فرض كفاية. * وبعدها بفترة جاءتني زوجة معتقل سابق كان معنا تقول إن زوجها اختفي فجأة دون سابق إنذار ودون أن يقول لزوجتيه شيئا ً .. قالت لي باكية: أنا زوجته القديمة ولدي طفلة ولا أجد الآن ضرورات الحياة بعد أن بعت كل شيء يمكن أن يباع في بيتي.. وقبل أن أسألها عن مصير الزوجة الثانية قالت: جاءت أسرتها من الصعيد وأخذتها مع أثاثها وأطفالها بعد أن طال غياب الزوج. * بكت الزوجة في أسي: علمنا أنه سافر للقتال في سوريا.. واسيت الزوجة الملهوفة علي زوجها والقلقة علي مستقبل ابنتها والمنكسرة أمام ¢ اللي يسوي واللي مايسواش ¢ علي حد قولها . * قلت لنفسي : إنها أزمة غياب فقه الأولويات في دنيا المسلمين عامة والحركة الإسلامية خاصة .. فهذا الرجل الصالح يترك الإنفاق علي زوجته وأولاده ¢وهو فرض عين¢ ليقوم بفرض الكفاية.. مع أن فقه الأولويات ينص علي تقديم فرض العين علي الكفاية إذا اجتمعا أو تعارضا . * قلت لنفسي: لماذا نسي هذا الرجل الطيب في غمرة حماسته قول النبي " صلي الله عليه وسلم" ¢ كفي بالمرء إثما ً أن يضيع من يعول¢ . * لقد بلغ من فقه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي إنه ألزم كل من يسافر لطلب العلم أن يترك لأسرته قوت عام كامل .. إنه الفقه في الدين بحق.. فطلب العلم فرض كفاية .. والإنفاق علي الزوجة والأولاد فرض عين. * والغريب أن صاحبنا رغم صلاحه لم يعتبر أن زوجته الأولي علي الأقل تستحق أن يشركها في قراره أو يعلمها به رغم أنها صبرت معه كثيرا ً في فترة سجنه .. وكأن الزوجة ليست شريكة لزوجها في سعادته وشقائه وأفراحه وأحزانه ويسره وعسره. * وكذلك صنع هذا الطبيب الشاب فهو رغم صلاحه لم يعتبر أمه التي ربته بعد وفاة والده شريكة له في قراره بأي صورة من صور الشراكة .. وكأنه لا يعرفها ولا تعرفه.. وكأنه لم يقرأ حديث رسول الله "صلي الله عليه وسلم" الذي قال لمثله أراد الجهاد معه دون أن يستأذنهما ¢ ففيهما فجاهد¢. * وأزعم أن الكثير من الشباب المتدين المتحمس لا يلقي بالا ً لمثل هذه الكلمات الرائعة من الرسول العظيم ¢ ففيهما فجاهد ¢.. فهو رقيق عطوف خدوم حنون مع الجميع إلا مع والديه.. وفي النهاية يظن أنه يطبق الإسلام حقا ً. * إنه فقه الأولويات الغائب عن حياتنا والذي يدعونا إلي تقديم الأصول علي الفروع ومقاصد الشريعة علي الوسائل والآليات والإيمان علي بر الوالدين وبر الوالدين علي الجهاد فرض الكفاية والفرض علي السنة والعلم قبل العمل والكيف علي الكم والاجتهاد علي التقليد والعمل الدائم علي المنقطع وعمل القلب علي عمل الجوارح .. وترك الكبائر قبل الصغائر والكفر والشرك قبل البدع.