إن لمصر فيضاً من الحب يملأ الوجدان. فقد أكرمها الله بذكرها نصاً وإشارة في القرآن. ورياً ينزل من الجنان ليجري ماء النيل كما أخبرنا الحبيب محمد صلي الله عليه وسلم وتزوج منها خليل الله إبراهيم عليه السلام. وصارت هاجر أماً لأهل الإسلام ومن بركاتها نبع "ماء زمزم لما شرب له" إلي يوم الدين. ولصبرها ويقينها وسعيها شرع السعي ركناً للحج والعمرة لنتذكر هاجر المصرية. وقد منَّ الله عليَّ بقراءة متأنية لكتاب متميز للعالم الأديب د.محمد بن موسي الشريف بعنوان: "فضائل مصر ومزايا أهلها" وقد جاءت فيه نصوص وفيرة في القرآن والسُنَة عن مصر وأهلها والأنبياء الذين وُلدوا وماتوا أو مروا علي مصر منهم سيدنا إبراهيم ويعقوب والأسباط ويوسف وموسي وهارون ويوشع بن نون وأيوب وشعيب. وكبار الصالحين والصالحات منهم السيدة هاجر وأم موسي ومارية وآسية وماشطة فرعون ومؤمن آل فرعون. كما أورد أسماء كثير من الصحابة الذين وفدوا علي مصر. والتابعين وكبار علماء مصر. ولم يفته أن يتحدث عن قادة وأبطال مصر وزهادها وشعرائها وأدبائها وعلماء الطبيعة والحكماء والفلاسفة. وأورد من أقوال العلماء قديماً وحديثاً عن مصر. كما ذكر غيضاً من فيض علماء مصر المعاصرين أمثال الرافعي. ومحمد عبده. ومحمد رشيد رضا. وحسن البنا. وسيد قطب. والشيخ عبدالحميد كشك. وسميرة موسي "أول عالمة ذرة" ومحمود شاكر. ومحمود عبدالوهاب. ومن شعرائها شوقي وحافظ والبارودي وأحمد محرم ومحمود غنيم. ولما قامت الثورة نزلت بزوجتي وأولادي من أمريكا والبحرين وخاطبت أمي رحمها الله في المطار قائلاً: أماه لن آتي كما تعودت من المطار إلي حضنك الدافيء حتي نزيح عن أمنا الكبيرة مصر غاصبها من هؤلاء المفسدين. فأزاحهم الله تعالي وكنا سجوداً وقت صلاة المغرب متبتلين. وأسأل الله تعالي أن يحدث ما قاله سبحانه: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" الأنعام: .45 وأريد في مقالي أن أستحث نوعين من أبناء مصر وأمتي أن يأخذ كل خطوة مغايرة لمواقفه السالفة: أولهما: الجماعات والتيارات الإسلامية وهي تحتاج إلي مزيد من تعميق الولاء للأوطان. وأن يكون تدريس الولاء للدين مرتبطاً بترسيخ الولاء. وأن يوضع في المنهج دراسات عن تاريخ وفضائل كل بلد وأهله» وهذا لترسيخ هذا الولاء الفطري الذي يتأسس في الإنسان لكونه إنساناً خلقه الله يحب مسقط رأسه وأهله وعشيرته. ثانيهما: فريق العلمانيين الذين يجعلون الولاء للوطن بديلاً عن الولاء للدين. وأحب أن أقول بحق إن هناك فارقاً ضخماً في الولاء للأوطان بين المنهج الإسلامي والعلماني. فأساس المواطنة في المنهج العلماني هو نظرية العقد الاجتماعي ل "جان جاك روسو". بينما الولاء في المنهج الإسلامي أساسه العقيدة والأخلاق. وواجب خلق الوفاء أن يظل عند الإنسان ولاء للأرض التي تسجد لله. ونبت علي أرضها. وتحت سماها. ونال الرعاية من أهلها. وإذ كان الولاء لونا في المنهج العلماني بديلاً عن الدين فإن الولاء للدين في المنهج الإسلامي يضاعف الولاء للوطن. وإذ كانت حدود المواطنة تنحصر في المنهج العلماني في القطر الذي يعيش فيه الإنسان فإن المنهج الإسلامي يجمع بين وطنية الحنين للوطن الذي ولد فيه الإنسان مع وطنية العقيدة التي توقظ الانتماء لكل أرض عليها مسلم موحد لله تعالي . ثم مواطنة عالمية تجعل المسلم يعيش في أية أرض لهذا الولاء المتعدد والمتدرج وفق هذه المنظومة الخماسية كما يلي: 1 الولاء لله تعالي لقوله سبحانه وتعالي : "وأنا ربكم فاعبدون" الأنبياء: من الآية .92 2 الولاء للناس رعاية لقوله تعالي : "وافعلوا الخير لعلكم تفلحون" الحج: من الآية 77. وقوله تعالي : "وقولوا للناس حُسناً" البقرة: من الآية .83 3 الولاء للوطن وللأرض عمارة لقوله تعالي : "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" هود: من الآية 61. وقوله تعالي : "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" الأعراف: من الآية .56 4 الولاء للنظام والقانون طاعة لقوله تعالي : "فاستقم كما أُمرت" هود: من الآية 112. وقوله تعالي : "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" النساء: من الآية .59 5 الولاء للسلطة تناصحاً ومعاونة لقوله صلي الله عليه وسلم : "الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله. ولأئمة المسلمين وعامتهم". وقوله تعالي : "وتعاونوا علي البر والتقوي ولا تعاونوا علي الإثم والعدوان" المائدة: من الآية .2 ويحكم الولاء في كل ذلك أن المرجعية العليا لله تعالي الذي خلق الإنسان والأوطان. وقد جاء منهاجه سبحانه لنصل إلي الأحسن والأفضل في المعاش والمعاد لقوله تعالي : "إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم" الإسراء: من الآية .9 نحن إذن ندعو إلي الولاء للوطن ولاء راشداً يجعل الولاء للدين فوق الولاء للأوطان. والولاء للوطن فوق الولاء للأحزاب والجماعات. والولاء للجماعات مرهون بالحدود الشرعية ومدي خدمة المقاصد العليا لعمارة الإنسان والأوطان وفي هذا يقول د.محمد عمارة: "وفي مواجهة المضمون الغربي. الضيق الأفق والانعزالي. لكل من "الوطنية" و"القومية". الذي وجد له دعاة وأحزاباً تخندق بعضها عند "الوطنية الإقليمية". وتخندق بعضها الآخر عند "القومية العنصرية". وافتعل آخرون كرد فعل التناقضات بين الإسلام وبين الوطنية والقومية في مواجهة هذا الغلو. رأينا الأستاذ البنا يبعث بالتجديد المنهج الإسلامي الذي يؤلِّف بين جميع دوائر الانتماء الوطني والإسلامي والإنساني فيسلكها جميعاً في سلم واحد" وقد اقتبس مما قاله الإمام البنا عن وطنية الحنين للوطن. ووطنية الحرية والعزة لتحرر الأوطان. ووطنية المجتمع لتحقيق الترابط والتكافل والسلم الاجتماعي. ووطنية الفتح لسيادة الأرض وقادتها بالإسلام. ووطنية الولاء للأرض كلها لهداية الإنسان إلي منهج الرحمن. نحن ندعو إلي ترسيخ الولاء لمصر ولاء راشداً يحذره الولاء للدين. ولا يجوز إهمال الولاء للوطن كما لا يجوز بحال إحلال الولاء لمصر أو أي وطن مكان الولاء للدين كما يروِّج غلاة العلمانيين. وأرجو من وزارة التعليم أن تجعل مقرراً في جميع المدارس المصرية العامة والخاصة. كما أتمني علي الجماعات والتيارات والأحزاب أن تجعل هذا الكتاب جزءاً من مقرراتها التي تدرس بين أبنائها حتي نُسهم في صناعة المصري الذي يجمع بين شعوره القوي بالانتماء لمصر تشريفاً والقيام بحث هذه المواطنة قولاً وعملاً. بناء وعمارة. دفاعاً ومرابطة» حتي نصل بمصرنا أن تقود أمتنا لتحرير الأسري والأقصي والقدس وفلسطين. وقيادة الأمة والعالم نحو التمكين للإسلام والمسلمين. والإحسان إلي الناس أجمعين.