لأكثر من عشرة قرون كنا "كما يقول ول ديورانت صاحب قصة الحضارة" أساتذة العالم.. وكنَّا المثل الأعلي لكل الحضارات... وكانت جامعاتنا ومكتباتنا تكاد تكون الوحيدة الجديرة بالاحترام... أما "أوروبا العصور الوسطي" فكانت في قاع الظلام.. حتي احتاجت إلي "تنوير" يرفض الدِّين.. لأنه وقف عدة قرون ضدّ العقل.. فانقلبت - بالتالي - من الدين إلي اللادينية والعالمانية.. هذا بينما ازدهرت حضارتنا علي أساس التكامل بين الدين والعلم والوحي والعقل..!! فكيف حدث هذا الانقلاب في حياتنا بعد القرون العشرة التي سادت حضارتنا فيها؟ كيف وقع هذا الانتكاس الذي جعلنا.. في ذيل الأمم. حتي إن جامعاتنا المعاصرة "ومنها الأزهر".. أصبحت خارج نظاق الخمسمائة جامعة الأولي في العالم؟ هل هي "طبائع الاستبداد" التي سيطرت علي حكام ما بعد الحروب الصليبية التي انتصرنا فيها.. فانخدعنا بالنصر العسكري الذي حققناه خلال قرنين ونصف القرن؟ وبالتالي تحول الحكام إلي فراعنة... ونسوا الله.. وعاشوا للدنيا.. وباعوا الأمة والإسلام؟ ودخلت الشعوب - من جانبها - في غيبوبة الجهل والكسل والتواكل. أجل: إن هذا صحيح لكن - من جانب آخر - هل نستطيع إعفاء الطوائف المؤمنة الداعية إلي الإسلام - علماء وعامة - من مسئوليتها... أو هي شريك أساسي في هذه الانتكاسة؟ نعم: إنها شريك أساسي.. لأنها استمرأت الاستبداد. وأسقطت المعاني الشمولية للجهاد. ونسيت الجهاد العلمي والحضاري والدعوي... وأصبحت في واد وسنن الله الكونية والاجتماعية في واد... لقد كلّت منها السواعد. فدخلت في مرحلة "القابلية للاستعمار".. فهي تُبرِّر الخنوع للطغيان.. سواء كان داخليًا أم خارجيًا.. وهي تتكيّف معه.. وتدرِّب أبناءها علي الرضا به. في كل يوم تتجه ملايين الأكف الضارعة والجباه الساجدة إلي الله سبحانه وتعالي تسأله إصلاح شأن المسلمين وتمكينهم في الأرض وتدمير أعدائهم... دون أن يدركوا أن الدعاء يجب أن يصحبه عمل - إلا للعاجزين - ودون أن يدركوا أنه في غزوة بدر الكبري "2ه" كان الرسول يدعو الله.. وهو في قلب المعركة..!! ولهذا فمنذ وطئت أقدام المحتل أرض العرب .. والحالة تنحدر من سييء إلي أسوأ. علي الرغم من وجود ومضات ضوء - ومبشرات كثيرة - تؤكد امتداد الإسلام خارج العالم الإسلامي.. عند قوم قد يستبدلهم الله بنا... بعد أن تولينا..!! أما في داخل العالم الإسلامي - فمازالت الأزمة الحضارية قائمة.. والبحث العلمي قد ذبلت ميزانياته. فلم تعد تفيد شيئًا.. والشهادات ومؤهلات التحصيل العلمي الجامعي والعالي أصبحت كلها مجرد أوراق يفرح بها أصحابها.. لكنهم لم يستطيعوا توظيف المعرفة لتطوير أنفسهم أو مجتمعاتهم. ولا طريق للعودة إلي "خير أمة" إلا بعد امتلاكنا لمؤهلات الخيرية.. الأصيلة.. والمعاصرة. * * * يقول تعالي "أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَي وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّي أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةى وِزْرَ أُخْرَي وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَي وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَي ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَي وَأَنَّ إِلَي رَبِّكَ الْمُنْتَهَي" "النجم:36: 42". في غمرة الأحداث الماضية. وفي محنة الانتخابات المصرية المعاصرة وازن كثير من الناس بين مكاسبهم الحالية والمستقبلية التي يتوقعونها بفوز مرشح معين. وأدلوا بأصواتهم علي هذا المعيار الشخصي النفعي دون وعي بما يحتاج إليه الوطن وما يرنو إليه الأحرار من تقدمه واستقلاله وازدهاره واستغلال خيراته لأهله الشرفاء. ودون إدراك لما سيحاسب عليه المرء في هذا الاختيار وما يترتب عليه من نتائج وآثار. ودون نظر إلي أن المعطي والمانع. والمعز والمذل هو الله وحده وليس لأحد سواه أن يتحكم في المستقبل وأن أي مرشح لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا. وأن المقياس الصحيح هو أن يجتهد المرء في اختيار الأتقي لله. والأنقي لليد. والأبعد عن المظالم. مدركا أنه لا ينتظر مثل أبي بكر الصديق أوعمر بن الخطاب. وأن المسئولية في ذلك تقع علي الإنسان وحده ولن يشفع له من حرّضه ولا من أغراه فهذا هو قول الله: "أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَي وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّي أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةى وِزْرَ أُخْرَي وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَي وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَي ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَي وَأَنَّ إِلَي رَبِّكَ الْمُنْتَهَي" "النجم:42" وهو قول لم يأت في القرآن وحده. إنما هي كلمات الوحي الخالدة. هي هي في صحف إبراهيم وموسي. وهي هي في التوراة والإنجيل والقرآن. لا أحد ينوب عن أحد في تحمل أوزاره "لا تَجْزِي نَفْسى عَنْ نَفْسي شَيْئاً" "البقرة:48" "لا يَجْزِي وَالِدى عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودى هُوَ جَازي عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً" "لقمان:33" "وَكُلَّ إِنسَاني أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَي بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً" "الإسراء:14" ويومها سيتعجب المجرم ويقول: "مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً" "الكهف:29". البقية في العدد القادم بإذن الله تعالي