مضت تسعة عشر عاماً تقريباً علي وفاة المفكرالجغرافي جمال حمدان "1928 - 1993" وكما كانت حياة هذا النابغة حافلة بالأحداث في العالمين العربي والإسلامي كانت كتابته كذلك ومازالت كتابات هذا النحات الأبرز ل"شخصية مصر" ومكانها العقبري تحتاج عودة كمرجع لنتأمل مخططات أعداء العرب والمسلمين. خاصة مع بداية تشكل جديد تعيشها المنطقة العربية والعالم الإسلامي. كانت كتابات جمال حمدان "29 كتاباً - 29 بحثاً" كمناظير نستطلع بها خطوات الأعداء علي جغرافيا عالمنا الإسلامي والعربي. فننظر بها إلي السحب الرمادية. ورياح التغيير المرتقبة بل ويرصد بها سقوط ايدولوجيات عدة تحت قبة كرتنا الأرضية. ويأذن بارتفاع أخري. لقد توقع جمال حمدان سقوط الاتحاد السوفيتي الشيوعي كما توقع بزوغ نظرية اليمين الأمريكي فيما سمي بالحرب علي الإرهاب بعد سقوط المعسكر الشرقي. وكان يعتبر فلسطين هي قضية العالم الإسلامي التي تؤثر توابعها. وحمم إحداثها علي هذا العالم من قلبه إلي أطرافه. ومن أحد كتب جمال حمدان "العالم الإسلامي المعاصر" الذي كتبه منذ ما يقرب من أربعين عاماً تأمل معي حاجتنا إلي ما كتب حين يتكلم عن مادة النص علي الدين الرسمي الإسلامي في الدستور وعن مشكلة الطوائف والأقليات فيقول: "يلاحظ أن الاستعمار من جانبه لا يكف عن ان يصور النص علي دين الدولة الرسمي إنما يعني تحول الاقليات الدينية إلي "مواطن من الدرجة الثانية" ويشيع ان هذا ضد مبدأ المساواة الديمقراطية أمام القانون وهذا دعاء - أو دعاية؟ - يقصد به مباشرة ا ستثارة الاقليات والصراع الطائفي وتمزيق الوحدة الوطنية. وإذا كانت المشكلة الطائفية تبدو قديمة في العالم العربي. فإنها لم تنفصل في أي مرحلة من مراحلها عن الاستعمار: هو الذي غزاها إن لم يكن خلقها. أن الصليبية - حتي الصليبية - تذرعت بحماية الشيعة من السنين "كذا" فضلا بطبيعة الحال عن زعمها حماية المسيحيين من اضطهاد السلاجقة في الأرض المقدسة؟ ويقول عن طريقة الاستعمار الأوروبي وخداعه السياسي إنه "يستغل الطائفية بلا مواربة وكسياسة مرسومة تلغم التركيب السياسي وتحول الأقليات الدينية - كما عبر البعض - إلي قنابل سياسية موقوتة. فاحتضن الأقليات وعمل علي خلق شعور بكيان خاص لها متورم منتفخ. وفتح الباب للتبشير والإرساليات والمدارس الدينية... الخ. كما سهل استيراد اقليات أخري دينية غريبة ليضاعف من التخطيط والتنافر الداخلية. بعد أن أشار إلي أمثلة علي ما فعلته بريطانيا وفرنسا في سوريا من سياسة تمزيق سوريا إلي علويين "شيعة". ودروز. وغير ذلك. وما فعلته فرنسا في لبنان من حشد أكبر أقلية مسيحية ممكنة في رقعة واحدة ذكر ما فعلوه في مصر والسودان والعراق. وانظر إلي كلامه التالي في رصانته وعمق فكره وفي مصر حتي منذ الحملة الفرنسية. حاول الاستعمار خلق مابلة مكذوبة زائفة بين "فلاحين وأقباط" وفي جنوب السودان كان التبشير الاستعماري سلاحا خطيراً أريد به منذ البداية تعميق الهوة بين الجنوب والشمال وصولا في النهاية إلي فصل سياسي بينهما كامل ومبيت. غير ان الوعي الوطني كان دائماً يهزم الاستعمار ويفوَّت عليه أغراضه. فما انصهرت الوحدة الوطنية بين الطوائف في مصر مثلا إلا علي نار الثورات الشعبية المتتالية ضد الأستعمار. وظل الاقباط ابداً كتلة رصيفة رصينة من صميم جسم الأمة. وفي الشام فشلت كل مناوراته للبلقنة السياسية علي الأساس الطائفي في سوريا. ليس هذا فحسب كل ما حاول الاستعمار بل إنه حيث لم يجد طائفية متعددة الأديان حاول أن يخلق ويفعتل طائفية وهمية داخل الدين الواحد! وفي هذا السبيل كان يلمح بإصرار سافر علي الفرق والفروق المذهبية داخل الإسلام ويروج لها علي أنها ظاهرة طائفية. وهو ادعاء مرفوض عليماً مثلما هو دينياً. وكذلك ما أكثر ما كان يكتب منظرو الاستعمار بأن النظام السياسي في العراق ليس إلا قاعدة من الشيعة تحكمها وتتحكم فيها قمة من السنة! بل إلي أبعد من هذا ذهب الاستعمار: فقد كانت خطته القائدة هي أن يعز العراق عن الوطن العربي كلية علي أساس ربطه بإيران التي. بدورها ظل الاستعمار يردد خطأ ومغالطة أنها شيعية أولا وإسلامية ثانياً "كذا!" وواضح أن هذه السياسة المزدوجة كانت تستهدف معاً وفي نفس الوقت تدمير الوحدة القومية للعرب. وبنفس الدرجة تدمير الوحدة الدينية للمسلمين. ثم يحاول جمال حمدان ان يضع ترياقاً لسموم الأعداء ويري أن الوعي بالوحدة القومية وحده هو كما يقول "الرد الصحيح علي كل استغلال للدين للتخريب السياسي سواء من قبل الاستعمار الدخيل أو الرجعية الداخلية" وقد مات جمال حمدان وقد رأي ترياقه بتدد في ظل فشل نظرية القومية. وقيل إنه تنبأ بعودة المشروع الإسلامي.