ما أحوج المسلمين في هذه الأيام المباركة أن يستروحوا بنسماتها العطرة وأن يرشفوا من رحيق شعائرها المعظمة ما يروي الظمأ. ويزيل الكدر ويبعث الهمم للسعي الجاد لإنارة الحياة بمصابيح الهدي التي أطلق ضوءها خاتم الانبياء فانمحت بها ظلمات الجهل والخرافة والضلال. وأزهق بها خفافيش الظلام. قروناً زاهرة. عاش العالم فيها سعيداً آمناً تسوده المحبة والتعاون. وحين تهاونت الأمة في تزويد هذه المصابيح بما يكفل لها الاستمرار. وعاشت علي جهد إسلافها. تسلل الظلم والظلام فأصبحت البشرية اليوم تئن من الفساد والاضطراب والصراع والسعار. ولا منجاة لها إلا بهذا الدين الذي من الله به علي المؤمنين إذ تكاملت فيه عناصر العقيدة والأخلاق والعبادات في ضبط القيم التي تحكم السلوك والمعاملات وتستثمر الجهود والطاقات في التنمية والنفع العام. ولننظر ببصيرة نافذة إلي شعائر الحج التي يقوم بها الآن من لبي دعوة الخليل إبراهيم.. وتستحضرها معهم جماهير الأمة في شتي بقاع الأرض: إنه الحج والحج قصد ونية والقصد متوجه إلي أول بيت وضعه الله في الأرض مباركاً وهدي للعالمين.. واختار له بقعة متفردة تعد مركز الأرض وأم القري تحيط بها كل شعوب العالم وأقطاره من كل جانب. وحرسها الله بجبال شاهقة. وجعلها مثابة للناس وأمناً. بل يمتد الأمن فيها للطيور والأشجار والنباتات. وقبل الوصول إلي حماها المقدس لابد أن يتخلي الحاج عن كل مظاهر الدنيا فيخلع ما كان يتزين به ويتميز من الملابس والنياشين والألقاب فما هو إلا عبد من عباد الله جاء ليطلب رضاه ورضاه فقط لا لغرض دنيوي ولا لمأرب شخصي إنما هو ابتغاء مرضاة الله قال تعالي: "وأتموا الحج والعمرة لله". "البقرة: 196". جاء متطهراً من حقوق العباد ملجماً للنزوات والشهوات: "فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج" "البقرة: 197" مصمماً علي فعل الخيرات واكتساب الحسنات: "وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوي واتقوني يا أولي الألباب" "البقرة: 197" ملبياً مذعناً مسرعاً مستجيباً لأمر الله معظماً لشعائر الله "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوي القلوب" "الحج: 32". إنه حين يطوف بالبيت يحدد الهدف ويضبط المسار فحياته بكل جوانبها وأنشطتها تدور حول عبادة الله "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين" "الأنعام: 162 - 163". وفي طوافه يستلم الحجر أو يشير. ويقبل الحجر الأسود إن استطاع. مجدداً عهده مع الله أن ينظر في أحواله وأقواله وأعماله ليخضعها لشريعة الله بعيداً عن المحرمات والشبهات. وفي سعيه بين الصفا والمروة تذكير له وللأمة بضرورة العمل الجاد بحثاً عن ضرورات الحياة مع التوكل علي الله فقد سعت من قبل أمنا هاجر بحثاً عن الماء سبعة أشواط ولم يتفجر ماء زمزم إلا تحت قدمي الطفل المبارك إسماعيل إيذاناً بأن علي المرء أن يسعي وليس عليه إدراك النجاح. فالرزق بيد الله وحده وما كلف المؤمن إلا ببذل الجهد حسبما يستطيع وترك النتائج وحده فهو الرزاق ذو القوة المتين. وبحلقه لشعره يتخلص مما علق بالذهن من ميل للدنيا وزينتها. والذبح للهدي فداء وتضحية رمزية تذكر بموقف الفداء الذي وعاه سمع الزمان ولم يتكرر منذ عهد الخليل إبراهيم وولده البار الوفي إسماعيل. والرجم رفض لحيل الشيطان في تعويق السير علي الطريق المستقيم. والوقوف بعرفة تجسيد للوحدة والمساواة. وتذكير بيوم العرض والحساب يوم يبعث الناس عراة كما خلقوا أول مرة. لا تميز لأحد بمال أو جاه إنما هو الإيمان والعمل الصالح. والتكبير وذكر الله أيام مني منهج ملازم للمؤمن في كل أحواله وأقواله وأعماله فالله أكبر من الأهل والولد. وأكبر من مشتهيات الجسد. وأكبر من كل كبير وأكبر من كل ظالم وعربيد» وبذكر الله تطمئن القلوب الواجفة. وتزول الهموم الطارئة. وتندفع العزائم الماضية في حراسة الحفيظ العليم. وطواف الوداع عهد وارتباط بالمشاعر والشعائر والقيم والضوابط للتغيير إلي الأفضل ونشدان الأكمل ولن يكون ذلك إلا بتغيير ما بالنفوس "إن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم" "الرعد: 11" وبتغيير ما بالنفس يتغير السلوك وتسقيم الجوارح علي شرع الله وهذا هو الدليل علي أن الحج كان مبروراً وأن الذنب كان مغفوراً وأن صاحبه قد عاد كيوم ولدته أمه. هذه المناسك والمنافع الروحية والخلقية والنفسية ترسم للحاج ولغير الحاج طريق الاستقامة وتؤكد حقوق الإنسان التي أطلقها حبيب الرحمن في يوم عرفات وهو يودع الدنيا ويجعلها أمانة في أعناق أمته يشيعونها في كل أقطار الأرض ليتحقق للبشرية أمنها واستقرارها وسعادتها. ذلك أن هذه الخطبة المحمدية أكدت حرمة الدماء والأموال والأعراض. وحرمت أن يخذل المرء أخاه أو يسلمه إلي من لا يخاف الله. لا ظلم ولا سخرية ولا احتقار بل أخوة وعدالة ومساواة. لا استغلال من الأثرياء للفقراء ولا مجال لأخذ أموال الناس بالباطل. ولا تمييز ضد النساء فلهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة القوامة. هل من عودة إلي هذه الحضارة التي رفرفت بظلالها الوارفة علي كل أرجاء المعمورة قروناً متطاولة. أغمدت فيها سيوف الفتنة وقذف فيها بالحق علي الباطل فأصابه في مقتل. وترنمت فيها أهازيج البهجة والمتعة والمجد والرفعة. وليس ذلك بصعب ولا ببعيد فالذي قاد المسيرة سلفاً مازال بيننا شامخاً مستعداً "لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً» كتاب الله وسنتي" صدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.