في هذه الأيام الطيبة المباركة تنساب الجموع المؤمنة من شتي بقاع المعمورة من كل صوب وحدب. من كل فج عميق وقطر بعيد. تلبية لأمر العزيز الحميد لزيارة البيت العتيق. وتعظيم شعائر الدين القويم. لابسين الأكفان ضارعين إلي الرحمن. أن يغفر لهم الذنوب. وأن يستر منهم العيوب. وأن يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم أطهارا أنقياء معاهدين ربهم أن يغيروا من سلوكياتهم . وأن يوازنوا بين ما هم عليه وبين ما كان عليه محمد صلي الله عليه وسلم وصحبه في استجابتهم لما يطلبه الوحي المبارك من ضبط العلاقة بين الإنسان وربه وبين الإنسان ونفسه وبين الإنسان وأهله وبين الإنسان وغيره. ذلك أنهم يرفعون شعار التلبية الذي يتكرر علي مسامعنا في كل ساعة. وتردده ألسنتنا معهم في كل حين. لكننا مع كثرة هذا الترديد فقدنا المعاني الرائعة التي يذكرنا بها هذا النشيد.. إنه تجديد للمعاهدة التي وقعناها مع رب الوجود حين شهدنا أنه الإله الواحد المطاع بلا تباطؤ ولا نقاش فلا إله إلا هو إذا أمر نلبي. وإذا نهي نحذر. فنحن صنعته وهو الخبير بها وبما يسعدها وبما يجنبها المزالق والمهالك ثم هو المنعم المتفضل لا تعد نعمه. ولا تحصي أفضاله وما عبادتنا له إلا تعبير عن شكر تلك النعم فله الحمد كما ينبغي لجلاله. وهذا ما يعبر عنه النشيد: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.. جئنا إلي بيتك ووقفنا ببابك لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. منك الهدي ومنك المعونة. ونحن من غيرك لا شيء. لا نملك لأنفسنا ضرا ولا نفعا.. جئنا نلوذ بحماك تركنا الوطن والأهل. وخلعنا ملابس الدنيا وجئناك بملابس الآخرة. ونخوض تجربة المحشر نبتهل إليك أن تقود خطانا نحو رضاك والجنة. وأن تبعدنا عن مسالك الشيطان فإن هداك هو الهدي. قلوب العباد بين يديك .والملك كله منك وإليك فلا تردنا خائبين. واهدنا صراطك المستقيم هذا نداء الحجاج والعمار فهل خرج قيد أنملة عما يجب علي كل مسلم في كل لحظات عمره أن يتمثله عملا وأن يتبناه هدفا ووسيلة.. إنهم هناك يذبحون الهدي في يوم التضحية والفداء إحياء لسنة الخليل إبراهيم الذي ما تلجلجت يداه وهو يمسك بالسكين ليذبح وحيده إسماعيل تلبية لأمر جاءه في المنام. ونحن هنا نذبح الأضاحي لنفس الهدف . لتظل صلتنا الإيمانية برب البرية ننفذ الأمر ولو علي غير هوانا. بل ولو علي غير غرائزنا فقد تلاشي حنان الأبوة عند إبراهيم أمام إرضاء رب العالمين ولذا وصف القرآن الكريم ما حدث لإبراهيم بقوله "إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ" "الصافات 106" وعندما نجح إبراهيم في هذا الامتحان القاسي فدي فلذة كبده بذبح عظيم وترك عليه في الآخرين سلام علي إبراهيم بين وضعنا الآن ووضع بني إسرائيل مع موسي إن معايشة الحجاج في أداء شعائرهم تستنقذ المؤمن من سعار التنافس علي المكاسب والمنافع والتخاذل والتكاسل عن أداء الواجبات. لقد صار وضعنا الآن في مصر كوضع بني إسرائيل بعد أن أهلك الله فرعون إذ وقعوا فيما كان يحذر منه نبيهم موسي عليه السلام حين اشتكوا إليه "قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَي رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" "الأعراف 129". فما كان منهم إلا أن "قَالُواْ يَا مُوسَي اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةى قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمى تَجْهَلُونَ " "الأعراف : 138". تماما كما يقال الآن: نريد تقليد حضارة الغرب بكل ما فيها من تفسخ وتمرد علي وحي السماء. وتأليه للمادة علي حساب الروح . وتفلت من الأخلاق والقيم . أنها هي هي "اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةى" إن إلههم الهوي والحرية المنفلتة. والرأسمالية المتسلطة. " أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَي عِلْمي وَخَتَمَ عَلَي سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَي بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ" "الجاثية 23". وقيل لهم "يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَي أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ ہ قَالُوا يَا مُوسَي إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّيَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" "المائدة 21:22" إنها هي الأرض المقدسة الآن والتي احتلت من قبل الغاصبين إنها القدس والمسجد الأقصي الذي سلمه الله لنبينا محمد صلي الله عليه وسلم أمانة في أعناق المسلمين . وحين يقال عليكم بتحرير هذه الأرض المقدسة نسمع من يخذل ويحذر إنهم قوم جبارون لديهم الأسلحة الذرية والبيولوجية وهم مدعومون من القوي العظمي . وعلينا أن نلجأ إلي الأممالمتحدة وحقوق الإنسان ليضغطوا عليهم "فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ" "يَا مُوسَي إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا" هل يتناسب هذا القول مع التلبية؟! إن الله لم يأمر بإعداد القوة الحربية إلا في سياق الحديث عن اليهود بعد أن وصفهم بأنهم شر دواب الأرض وبأنهم جبناء. وبين لنا أن لهم مناصرين في الداخل من المنافقين وفي الخارج من أعداء الدين . وأمرنا أن نشرد بهم من خلفهم وألا نلتفت إلي إدعاءاتهم الكاذبة بأنهم سبقوا إنهم لا يعجزون فقد سبق لأجدادهم من بني النضير أن ظنوا "أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ" "الحشر 21" إن طريق النصر ليس مفروشا بالورود وإن التلبية قرين التضحية والتضحية مأمونة العواقب كما حدث لإبراهيم . المهم أن يعلم الله ما في القلوب: "قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" "الصافات 105" وكما حدث لسيد المرسلين محمد صلي الله عليه وسلم في بدر وأحد وبني النضير وبني قريظة .. فقد قذف الله في قلوبهم الرعب . وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم "نصرت بالرعب مسيرة شهر" لكن هذا السلاح لن يتملكه المسلمون إلا بتوثيق الصلة بمن يمنح هذا السلاح "قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَي اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ" "المائدة 23". وعلينا أن نتساءل مع أنفسنا بصدق وواقعية: هل اصطلحنا معه وتبينا شرعه ولبينا أمره وضحينا من أجله أم تشرذمنا فرقا وأحزابا بعد الثورة لاغتنام الفرص واستباق المغانم "فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبي بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" "المؤمنون 53". وعدونا متربص بنا مراقب لتصرفاتنا مخترق لصفوفنا مفرق لجمعنا موهن لعزائمنا مدمر لمقدراتنا مستغل لخلافاتنا.. إن من البديهيات أن من كان هدفه مصلحة الوطن فعلا قدم ما تقتضيه تلك المصلحة علي كل المصالح الشخصية والآنية. وان أساس الخلافات الآن هي الأثرة والأنانية والاستقواء بالخارج المعادي بالطبع لصالح الوطن. ويبقي التحذير القرآني للجميع "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" "الأنفال 46".