في البدء كانت الكلمة خلقها الله نوراً فكشفت ظلام الشر. خلقها الله حروفاً فصاغت بريق الشعر. خلقها الله نغمة فكان شجن الوتر. خلقها الله لونا فرسم البشر سحر القمر وخضرة الشجر. إن كل ما منحه الله لنا من مواهب ومشاعر لا يمكن أن يثير فينا مشاعر الكفر والضجر. إن الإبداع البشري هو صياغة الضمير الإنساني ليعلو فوق باقي المخلوقات والكائنات والتصورات والمفردات. لكن البعض يخرج علينا دون سابق إنذار ليحرم علينا عيشتنا. ومشاعرنا. وما تبقي من لمحة الجمال في عيوننا. التماثيل تطرد الملائكة. تطاردها. وتقلقها. وتزعجها. فتحرمنا منها. وتبعدنا عنها. يا الله!! ينقصنا هذا الإجتهاد ليضاعف مساحة القبح والهباب من حولنا. ليجعل كلمة أكوام القمامة هي العليا. بعد أن نشنق النحّاتين والتشكيليين ونعلّقهم في ميدان التحرير. لقد حطّمپ سيدنا إبراهيم عليه السلام التماثيل التي يعبدها قومه. وكانوا يعتبرونها آلهة. وإن ترك كبيرهم رمزاً. لكنه لم يقض علي صناعتها بل علي العكس راجت وقويت ونحتت من صخور يصعب كسرها. فالأهمپ من تكسير الأصنام باليد خروجها من القلب. إن الرسول الكريم لم يقرب تمثالاً بأذي وكان يصلي في البيت الحرام وحوله ما حوله من تماثيل. ولم يكن ذلك إقراراً منه بها. وإنما لأنه تعامل معها بطريقة مختلفة من التكسير المادي. فقد بدأ بإدخال التوحيد في القلوب حتي طرد الشرك منها كما يطرد النور العتمة. فتعلّم الناس منه أنه لا إله إلا الله. فبطلت كل الآلهة. وعندما فتح الله علي الرسول مكة دخلها هو وصحابته وفي يده قضيب صغير. لا معول ولا فأس. يشير إلي الصنم بالقضيب ويقول: - وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً - فإذا إنكفأ صنم علي رأسه لم يجد من يعدله وإذا إنكفأ علي ظهره لم يجد من يغيثه. وكان رجاله يدحرجون الآلهة المزعومة بأرجلهم بعد أن كانوا يعبدوها من قبل. لقد نزع النبي هذه الأشياء من ضمائرهم فماتت واقفة. إن التمثال لا شيء فيه مجرد كتلة جمالية في الفراغ. لكن إن عبدته طائفة ليقرّبها إلي الله زلفي. يصبح عندئذ صنماً بالنسبة إليهم فقط. وإذا قامت طائفة أخري بعبادة التمثال لا ليقرّبهم إلي الله. بل بإعتباره هو الإله نفسه. يصبح التمثال وثناً بالنسبة إليهم فقط. إن الخلط اللغوي بين التمثال والوثن والصنم هو المسئول عما نحن فيه من خلط المعاني. وخلل في الإجتهادات الفقهية ولو فهمناها لإسترحنا. وعندما سيطر المسلمون علي مصر كلها. شمالها وجنوبها. شرقها وغربها. وجدوا فيها الآثار الفرعونية والقبطية والرومانية علي جميع أشكالها. بشر وحيوانات ونبات وحشرات. لكنهم لم يقربوها. لم يحطموها. وبقيت علي ما هي عليه حتي اليوم. فلماذا لم يكسرها المسلمون من صحابة رسول الله الذين فتحوا مصر؟ هناك ثلاثة إحتمالات: " 1 " إن هذه الآثار يومها كانت مخبأة في سراديب وأنفاق تحت الأرض فلم يروها " 2 " إن هذه الآثار كانت صعبة الكسر فلم يستطيعوا تحطيمها وأبقوا عليها مرغمين " 3 " أن يكون الصحابة يوم أن دخلوا مصر مستضعفين فيها ولا حول لهم ولا قوة.پپ " 4 " أن يكونوا علي علم من رسول الله بالفرق بين التمثال والصنم والوثن. والإحتمال الأول مرفوض لأن الآثار لم تكن في سراديب ولا أنفاق بل كانت معابد وتماثيل شامخة في الهواء الطلق. والإحتمال الثاني مرفوض لأن الآثار كان من الممكن كسرها. والإحتمال الثالث مرفوض لأن المسلمين كانوا حكّاماً ولم يكونوا محكومين وكانت لهم اليد العليا في كل شيء. ولا يبقي سوي الإحتمال الرابع وهو أنهم كانوا يعرفون الفرق بين التمثال والصنم والوثن. وأنهم تعلموا معني التوحيد علي يد رسول الله الذي لم يقلّد أبيه إبراهيم في التعامل مع التماثيل. ونواصل حديثنا في العدد القادم إن شاء الله تعالي.