صفا الجو في مصر فأسد الدين وزيرها المغوار يقوم بأمر الإسلام فيها فيشفي صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم بما ضمد من جراح وآسي من كلوم. حاسبا أن الدهر سيسعفه بأمد فسيح يمتد به حبل الحياة ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر فقد انتقل إلي جوار ربه بعد ثلاثة أشهر من وزارته وانفجرت بالدموع عيون وتأججت زفرات وأكباد. مضي أسد الدين وخلفه صلاح مضي أسد باسل ليحتل مكانه شبل جسور لقد ألهم الله نور الدين الموافقة علي هذا الاختيار فالوزير الجديد في حلقته الثانية والعشرين من عمره السعيد وحواليه من القادة من يكبره سنا وتجربة وإدراكا وقد يقول قائل: إن العاضد الوصولي قد اختار الشاب الصغير كيلا يستطيع إدارة الأمر وحده فيلجأ إليه في كل شأن عسير وسواء أكان ذلك أم سواه فقد أثبت الشاب الباسل كفاية نادرة وتمت نعمة الله عليه في فضلها العميم ولن يفوتنا موقف دقيق يمر عليه المؤرخون مسرعين. ونقف عنده قليلا نستوضح دلائله وطواياه فقد نظر صلاح الدين إلي والده نجم الدين وقد أصبح رئيسا عليه فتعاظمه أن يقعد في مكان يستحقه أبوه في تقديره وامرآه ماذا يصنع وعواطف الوفاء تخلع عليه حرجا يستشعره ويحاول أن يفر منه فلا يقدر إنه يتقدم إلي أبيه في خشوع وإكبار فيصارحه بأنه يكل إليه الأمر فعليه أني صدر ما يريد وعلي صلاح المبادرة بالتنفيذ ثم يزيد فيعلن أنه سيتلقي وحيه فلا يعجل بإصدار أمر دونه. مهما وضحت الجادة واستقام المذهب ويري الوالد وفاء نجله فيسر في نفسه فرحة قوية يحس له كنشوة السلاف ثم يصيح من أعماقه: كلا يا بني فوالله ما غربت عني شمس سطعت اضواؤها عليك أمض كما تشاء في طريقك ولن أبخل عليك بدمي ورأيي مدي الحياة.. وسارت الأيام وصلاح يفيء إلي والده نجم الدين مستظلا بوارف رأيه والأب الحنون يبذل نصيحته وقوته في صلاح الأمر ودوام السداد بل إنه كان يعارض ابنه علي مسمع ومرأي من الناس فلا يجد غير الإذعان المخلص والسمع المطيع وقد وثق كلا البطلين بسريرة صاحبه فأصبح خلاف الرأي مدعاة الثقة الكاملة والحب الأكيد. لم يسر صلاح الدين لأول عهده "بالوزارة في طريق مفروشة بالورود والريحان فقد تكاثرت دونه عقبات تعترض راحته وتكدر صفاءه وقد بذل جهده الجاهد في تذليل الجامح وتسهيل الوعر ومصانعة العاصفة فلجأ إلي الشعب المصري يستميله بتخفيف الضرائب وانعاش الأسواق وإعداد المؤن والأقوات وكان الفرنجة قد فشلوا في تقدير قوته ومكانته فشنوا علي دمياط هجوما صليبيا جديدا وتوافدت سفائنهم تحمل الذخيرة والعتاد ويقذف جنودها بالحمم علي ديار الإسلام في دمياط وما جاورها من الأصقاع فهرع صلاح بكتائبه الباسلة إلي منازلة الأعداء ولم يأل البطل جهدا في الدفاع والاستبسال فقد كان الفرنجة عظيمي الآمال في النصر ويرون في الاستماتة سبيلا إلي زعزعة مكانة صلاح الدين وأني ذلك؟ فقد تغلب الجيش الإسلامي علي عدوه المغير وعاد صلاح إلي القاهرة وحوله جموع الشعب تهتف بحياته وتعتز ببسالته مما أضفي عليه الثبات والاستقرار وجمع حوله الخول والأنصار. لكن الحق لا يعدم أعداءه.. فقد عز علي مؤتمن الخلافة أن يصفو الأفق للوزير الأيوبي ورأي في انتصار دمياط دعامة قوية يقوم عليها صرحه المكين. فلجأ إلي الخيانة الدنسة مكاتبا ملوك الفرنجة وباذلا وعوده ومغرياته ليعود الصليبيون إلي القاهرة من جديد. وشاءت المصادفات السعيدة أن تقع الرسالة المريبة في يد جندي أيوبي غيور. فتقدم بها إلي صلاح الدين ونظر البطل فإذا أصدقاء الظاهر ألداء الباطن يدبرون المكايد وينصبون الفخاخ فحسم طريق الشر وقتل الخائن الآثم قتلة بلقاء أثارت دويا في اتباعه من جنود السودان فجاهروا بالعصيان وتنادوا بالثورة ولكن الشعب المؤمن من وراء بطله الباسل يعاضد قوته ويؤازر بطشه فلم تكد عاصفة الشر تثير الغبار قليلا في وجه صلاح الدين حتي قابلها بعاصفة ملتهبة قوية فألقي علي أعدائه أنجع درس وأقساه وتفرق العصاة أباديد يتلمسون سبيل النجاة ولا سبيل. ونستكمل المسيرة في العدد القادم إن شاء الله تعالي.