قال تعالي : "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك علي كل شيء قدير تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" [ال عمران]. تصور لنا هاتان الآيتان الكريمتان حقائق هامة يملأ بها القلب والمشاعر والبصر والحواس هذه الحركة المتداخلة. حركة إيلاج الليل في النهار. وإيلاج النهار في الليل. وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي.. الحركة التي تدل علي قدرة الخالق ووحدانيته بلا شبهة ولا جدال. متي ألقي القلب إليها انتباهه واستمع فيها إلي صوت الفطرة الصادق العميق. وسواء كان معني إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل هو أخذ هذا من ذاك وأخذ ذاك من هذا عند دورة الفصول.. أو كان هو دخول أحدهما في الآخر عند دبيب الضياء في الامساء والإصباح. سواء كان هذا أو ذاك فإن القلب يكاد يبصر يد الله تعالي وهي تحرك الأفلاك وتلف الكرة المعتمة أمام تلك الكرة المضيئة. وتقلب مواضع الظلمة ومواضع الضياء.. شيئاً فشيئاً يتسرب غبش الليل إلي وضاءة النهار. وشيئا فشيئا يتنفس الصبح في غيابة الظلام. فشيئاً فشيئا يطول النهار وهو يسحب من الليل في مقدم الصيف. وشيئا فشيئا يطول الليل وهو يأكل من النهار في مقدم الشتاء وهذه أو تلك حركة لا يدعي الإنسان أنه هو الذي يمسك بخيوطها الخفية الدقيقة. ولا يدعي كذلك عاقل أنها تمضي هكذا مصادفة بلا تدبير. كذلك الحياة والموت. يدب أحدهما في الآخر في بطء وتدرج.. كل لحظة تمر علي الحي يدب فيه الموت إلي جانب الحياة. ويأكل منه الموت وتبني فيه الحياة. خلايا حية منه تموت وتذهب. وخلايا جديدة فيه تنشأ وتعمل. وما ذهب منه ميتا يعود في دورة أخري إلي الحياة. وما نشأ فيه حيا يعود في دورة أخري إلي الموت. هذا في كيان الحي الواحد. ثم تتسع الدائرة فيموت الحي كله. ولكن خلاياه تتحول إلي ذرات تدخل في تركيب آخر. ثم تدخل في جسم حي فتدب فيه الحياة. وهكذا دورة ذاتية في كل لحظة من لحظات الليل والنهار. ولا يدعي إنسان أنه هو الذي يصنع من هذا كله شيئا. ولا يزعم عاقل أنها تتم هكذا مصادفة بلا تدبير. إنها حركة في كيان كل حي. وفي كيان الكون كله كذلك. حركة خفية عميقة هائلة تبرزها هذه الإشارة القرآنية القصيرة للقلب البشري والعقل البشري. وهي تنبيء بيد القادر المبدع اللطيف المدبر. فأني يحاول البشر أن ينعزلوا بتدبير شأنهم عن اللطيف المدبر؟ ثم أني يتخذ بعضهم بعضا عبيدا. ويتخذ بعضهم بعضا أربابا. ورزق الجميع بيد الله وكلهم عليه عيال. إنها اللمسة التي ترد القلب البشري إلي الحقيقة الكبري. حقيقة الألوهية الواحدة. وجميع المواد التي تتغذي بها الكائنات الحية من نبات أو إنسان أو حيوان في كل صورها سواء كانت علي هيئة سوائل أو غازات أو املاح أو مواد عضوية. مطهية أو مهضومة. تصل معدومة الحياة الي خلايا أجسام هذه الكائنات. فتتحول بقدرة الله تعالي إلي خلايا حية تبني بها أنسجة الكائنات الحية وأعضاءها وتحل محل التالف منها الذي تخرجه الكائنات الحية علي هيئة غازات بطريقة التنفس أو علي صورة بول وعرق وافرازات أخري مختلفة. ومن دورة التمثيل الغذائي في النبات تبرز عظمة الخالق وقدرته علي أن جعل الموت ضروريا للحياة. وكيف خلق الحياة من نواتج الاحياء. فدورة الحياة والموت هي معجزة الكون وسر الحياة نفسها. والسمات الرئيسية في هذه الدورة أن الماء وثاني أكسيد الكربون والنتروجين والاملاح غير العضوية في التربة تتحول بفعل الطاقة الشمسية والنباتات الخضراء والانزيمات الموجودة بها وأنواع معينة من البكتريا إلي مواد عضوية منها مادة الحياة المعروفة باسم "البروتوبلازم" وهي تتكون في الكائنات الحية. أما في الشق الثاني من هذه الدورة فتعود هذه المواد إلي عالم الموت في صورة نفايات الأحياء ونواتج ايضها وتنفسها. ثم في صورة أجسامها كلها عندما تموت وتستسلم لعوامل التحلل البكتيري والكيميائي التي تحيلها إلي مواد بسيطة غير عضوية. مهيأة للدخول في دورة جديدة من دورات الحياة.