رشيد رضا - على عبدالرازق علي عبدالرازق فند مقولات »الخلافة« فكان مصيره الطرد ربما لم تشغل قضية المجتمع المصري والعربي بقدر ماشغلته العلاقة الجدلية بين الدين والسياسة، التي كانت عنوان المعارك الأكثر احتداماً في عالم الساسة، أكثر من قرن انقضي ولم يصل المحللون والمنظرون والسياسيون إلي جواب وفض للاشتباك بين الديني والسياسي، الذي أخذ منحي الإجابة عن سؤال الهوية المصرية، والذي عبر عن نفسه في الصراع حول منظومة "الخلافة الإسلامية". لايدرك بعض المصريين أن الأزمة السياسية التي نعيشها اليوم، هي بنت الأمس البعيد، عندما تحولت "الخلافة" إلي محور النقاش الأول في دوائر السياسة والدين في قاهرة النصف الأول من القرن العشرين، بعد أن رأي فيها أنصار التيار الأصولي ضرورة تشكل المنطلق لإقامة الدولة الإسلامية متعددة الأعراق واللغات، باعتبارها الحل لجميع المشاكل التي خلفها الاستعمار الغربي، في مقابلة رأي التيارات الليبرالية التي صدرت مقولة "مصر للمصريين"، التي أبدعها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، بالتأكيد علي أن حل مشاكل مصر يأتي في المقام الأول والأخير. كان التيار المنادي بالخلافة يضم خليطاً متعدد الثقافات، ويكفي أن المناضل الوطني الكبير مصطفي كامل كان أحد المنادين بفكرة الجامعة الإسلامية التي روجها السلطان العثماني عبدالحميد الثاني، باعتبارها الحل الأمثل لتوحيد المسلمين في مواجهة الموجة الاستعمارية الأوروبية التي أسقطت 59٪ من بلاد المسلمين أثيرة الاحتلال. إذاً المشكلة بجوانبها العاطفية اصطدمت بمطالب البعض بضرورة التركيز علي المشكلة المصرية، والعمل علي محاربة الاستعمار الإنجليزي وتحرير مصر أولاً، وهو التيار الذي تبنته ثورة 9191.. وقائدها سعد زغلول، الذي أسس حزب "الوفد" الليبرالي، الذي ركز علي الداخل المصري في معركته لنيل الاستقلال. في تلك الأثناء جرت علي نهر السياسة العالمية الكثير من الأحداث الجسام، فالدولة العثمانية ممثلة الخلافة الإسلامية الرسمية، تعرضت لهزائم في الداخل التركي والخارج الأوربي، فسقطت الخلافة حبيسة حزب "الاتحاد والترقي" المناصر الأول لسياسة "التتريك" القسري لكل العرقيات غير التركية داخل الدولة العثمانية، فيما فشلت استانبول في التصدي للتقدم الأوروبي العسكري علي أملاك الدولة، وجاءت الحرب العالمية الأولي 4191 8191م، لتسقط الدولة العثمانية فعلياً بعد خسارتها الحرب بجوار ألمانيا وإمبراطورية النمسا والمجر. تحولت الدولة العثمانية إلي تابع ذليل للغرب لذلك لم يجد قائد الجيش مصطفي كمال إلا إسقاط الدولة العثمانية وإعلان قيام الدولة التركية في 2291.. ثم أعلن سقوط الخلافة الإسلامية في 3 مارس 4291م، وكان للقرار الأخير أثره الذي لا يمحي علي العالم الإسلامي، بما فيه مصر. إن صدمة سقوط الخلافة العثمانية رسمياً، في ظل ظروف صعبة عاشها العالم الإسلامي، كانت لها تداعيات لا تنتهي في الواقع المصري، ففكرة الجامعة الإسلامية التي تعرف عليها أنصار تيار إحياء التراث في مطلع القرن العشرين رأوا أن لا نهضة إلا بإحياء الخلافة الإسلامية كرابطة تجمع مختلف الشعوب الإسلامية تحت قيادة السلطان العثماني، وهو ما سبب لهم رد فعل عنيفا وكان بمثابة زلزال فكري دفع العديد من رموز التيار التراثي إلي التشدد الفكري، وإنتاج ما بات يعرف باسم تيار "الإسلام السياسي". فالشيخ محمد رشيد رضا؛ تلميذ الإمام محمد عبده، استشعر قرب سقوط الخلافة الإسلامية فأصدر كتابه "الخلافة أو الإمامة الكبري" في عام 2291.. كمحاولة لإثبات مشروعية الخلافة وأنها جزء من الشرعية الإسلامية، في مواجهة دعوات إلغائها، لكن محاولته فشلت. وجاء الرد العملي علي سقوط الخلافة العثمانية بانقلاب رشيد رضا الفكري وانضمامه إلي التيار الأكثر تشدداً وبدأ ينظر لإعادة إحياء الخلافة، وهي الأفكار التي تلقفها الداعية الشاب حسن البنا الذي وضع في الإسماعيلية سنة 8291بذور جماعة "الإخوان المسلمين"، والتي كانت ولا تزال غايتها الكبري إعادة إحياء الخلافة التي تضم جميع دول العالم الإسلامي في كيان واحد. علي الطرف الآخر جاء أهم رد علي تيار إحياء الخلافة، من قبل العالم الأزهري الكبير الشيخ علي عبدالرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" (صدر عام 5291م)، الذي يعتبره البعض أهم كتاب عربي في القرن العشرين، انتصر فيه الشيخ الأزهري لقيم العقل والحداثة، مستلهمًا روح النص في لحظة فارقة في تاريخ مصر. ففي ظروف تاريخية كان الملك فؤاد الأول (حكم من 7191 6391) يريد أن ينقض علي الديمقراطية الوليدة ممثلة في دستور 3291ولم يجد الملك فؤاد أفضل من استضافة الخلافة في مصر، وتنصيب نفسه خليفة علي جميع المسلمين، كحل يجعله أكبر من واقع مصر ما بعد ثورة 9191 الذي ترسخ خلاله مفهوم حكم الشعب بالشعب وإقامة حياة نيابية. استخدم الملك فؤاد عددا من علماء الأزهر للدعاية لفكرة نقل إعادة الخلافة في القاهرة، وبدأ التحضير لعقد مؤتمر إسلامي حاشد لمختلف علماء الإسلام من بقاع العالم المختلفة، في كل هذه الأجواء خرج عبدالرازق بكتابه الذي نقض فيه شرعية الخلافة، ويقول الدكتور عمار علي حسن، الباحث في الإسلام السياسي، إن الشيخ علي عبدالرازق أكد في كتابه أن الخلافة فقدت مبرراتها بعد أن تحولت إلي ملك لا يستند علي الشرعية بل علي "أساس القوة الرهيبة"، ما يعد مخالفة صريحة لصحيح الإسلام الذي أقر فكر الشوري. ويقول عبدالرازق في كتابه: "من الطبيعي في أولئك المسلمين الذين يدينون بالحرية رأيا، ويسلكون مذاهبها عملا، ويأنفون الخضوع إلا لله رب العالمين، ويناجون ربهم بذلك الاعتقاد في كل يوم سبع عشرة مرة علي الأقل، في خمسة أوقاتهم للصلاة، من الطبيعي في أولئك الأباة الأحرار أن يأنفوا الخضوع لرجل منهم أو من غيرهم ذلك الخضوع الذي يطالب به الملوك رعيتهم إلا خضوعاً للقوة، ونزولاً علي حكم السيف القاهر". ويقضي عبدالرازق علي مفهوم الدولة الثيوقراطية (الدولة الدينية)، مؤكداً علي مرونة فكرة الدولة في الإسلام بقوله: "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحاً ما يقولون، من أن إقامة الشعائر الدينية، وصلاح الرعية، يتوقفان علي الخلافة، بمعني الحكومة في أي صورة كانت الحكومة، ومن أي نوع، مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو بلشفية، لا ينتج لهم الدليل أبعد من ذلك، أما إن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم الذي يعرفونه فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجتهم غير ناهضة". ويقول الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان، إن جماعة "الإخوان المسلمين" تصدر فكرة "الخلافة الإسلامية" في لغة خطابها السياسي المعتمد، بالادعاء أنها العلاج الناجع لكل أمراض المجتمع الإسلامي، دون البحث عن حلول حقيقية لمشاكل المجتمع المصري. و"الخلافة التي يريدون إحياءها؛ وهي فكرة عند مختلف أبناء تيار الإسلام السياسي، لا يوجد أيّ حديث واقعي عن كيفية إحيائها في مجتمع القرن الواحد والعشرين.