قبل أن نستكمل حديثنا حول كتاب »الإسلام وأصول الحكم« للشيخ علي عبدالرازق أود أن أنبه إلي أن الأمر لا يتعلق بتأكيد مطلق أو نفي مطلق لما يطرحه الشيخ أو لطرح يناقضه.. بقدر ما يدخل في إطار ضرورة الحوار الذي لا يصادر علي رأي آخر مخالف، بل ينفتح عليه بمنطق خلاّق وبموضوعية، ولابد أن نفتح الطريق إلي ذلك بصبر وشجاعة لإنارة الوعي. وبالتالي إنارة الطريق أمام الجماعة المصرية.. فليس طرح مبررات الحاجة إلي دولة مدنية مصادرة علي طرح آراء الداعين لدولة دينية أو غير ذلك.. مادامت المسألة يحكمها المنطق والموضوعية وروح العصر ومتطلباته، وإدراكنا جميعاً أن تنامي وعينا بأهمية الحوار الذي يحترم الرأي الآخر بحق، هو السبيل الوحيد لنجاح التغيير وإعادة البناء، وأيضاً إيقاف موجة التحزبات المغلقة التي تجتاح الشارع المصري وهي تصم آذانها عن أي صوت آخر وتدفع بنا إلي مشارب مهلكة، بما يجعلنا بذلك نصل إلي خيانة أنفسنا ووطننا، فما قامت تلك الثورة إلا لنلحق بهذا العصر الذي أخرجونا منه.. الذي لم يعد يسمح باقتحامه إلا بنهج ديمقراطي صحيح علينا أن نتجه إليه بإصرار. رسائل من التاريخ ونعود إلي كتاب الشيخ، فبعدما بدأ بتأكيد أن الكتاب الكريم قد تنزّه من ذكر الخلافة والإمامة، أو الإشارة إليهما، وكذلك السنة النبوية، وبرده علي الآراء المخالفة يتوقف عند آخرها والقائل بأن الخلافة يتوقف عليها إقامة الشعائر الدينية وصلاح الرعية ويلخص رده في أن ما ارتضاه علماء السياسة يقول »إنه لابد لاستقامة الأمر في أي أمة متمدينة سواء كانت ذات دين أم لا دين لها، وسواء كانت مسلمة أم مسيحية أم يهودية أم مختلطة الأديان، لابد لأي أمة منظمة مهما كان معتقدها من حكومة تباشر شئونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، قد تختلف أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية وبين جمهورية وبولشيفية وغير ذلك«، وأياً كان تنازع علماء السياسة في تفضيل هذه أو تلك، لكنا لا نعرف لأحد منهم ولا من غيرهم نزاعاً في أن أمة من الأمم لابد لها من نوع ما من أنواع الحكم.. وينتقل الشيخ إلي رسائل التاريخ في هذا الشأن بقوله »الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل ويشهد به التاريخ قديماً وحديثاً، أن شعائر الله ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف علي ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة، ولا علي أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء.. فليس بنا من حاجة إلي تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك.. فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة علي الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد. وهنا يذكر قول ابن خلدون »ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم، وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكاً بحتاً.. ليس للخلافة منه شيء!!« وفي جملة موجزة.. حكم الاستبداد والتخلف. ويأتي الشيخ إلي رسائل التاريخ مُفصلة، فمنذ منتصف القرن الثالث الهجري أخذت الخلافة الإسلامية تنقص من أطرافها، حتي لم تعد تتجاوز دائرة ضيقة حول بغداد وصارت خراسان وما وراء النهر لابن سامان وذريته من بعده.. وبلاد البحرين للقرامطة، واليمن لابن طباطبا، وأصفهان وفارس لبني بُوية، والبحرين وعمان لفرع من عائلة القرامطة، قد أسس فيها دولة مستقلة، والأهواز وواسط لمعزّ الدولة، وحلب لسيف الدولة ومصر لأحمد بن طولون، ومن بعده للملوك الذين تغلبوا عليها وامتلكوها واستقلوا بأحكامها، كالاخشيديين والفاطميين والأيوبيين والمماليك وغيرهم. حصل ذلك.. فما كان الدين يومئذ في بغداد مقر الخلافة خيراً منه في غيرها من البلاد التي انسلخت عن الخلافة، ولا كانت شعائره أظهر ولا كان شأنه أكبر، ولا كانت الدنيا في بغداد أحسن، ولا كان شأن الرعية أصلح. وتأتي النهاية كما يستحضرها أمامنا حين هوت الخلافة عن بغداد في منتصف القرن السابع الهجري حين هاجمها التتار وقتلوا الخليفة العباسي المستعصم بالله، وقتلوا معه أهله وأكابر دولته وبقي الإسلام.. كما ورد في تاريخ الخلافة.. »ثلاث سنين بدون خلافة«. كان المُلك في مصر يومئذ للظاهر بيبرس، ولأمر ما أخذ ينشأ بين مصارع العباسيين حتي عثر علي رجل زعموا أنه من فلول الخلافة العباسية ومن أنقاض بيتها.. وكذلك أراده الظاهر أن يكون فأنشأ منه بيتاً للخلافة في مصر يأخذ الظاهر بجميع مفاتيحه واغلاقه، واتخذ هياكل سماهم خلفاء المسلمين، وحمل المسلمين علي أن يدينوا لجلالتهم، وفي يديه وحده أزمة تلك الهياكل، وتصريف حركاتهم وسكناتهم وأطراف ألسنتهم، ثم كانت تلك سُنة الملوك الجراكسة في مصر بعد الملك الظاهر، إلي أن أخذ الخلافة الملوك العثمانيون سنة 329ه. ولقد ذكرنا في مقالنا الأول أمر سلاطين آل عثمان عند السقوط الأخير لهم وإن كان هذا لا يمنع من ذكر ما حدث في الحرب العالمية الأولي وموقف حسين بن علي أحد أمراء العرب الذي وقف إلي جانب الحلفاء ضد العثمانيين في آخر فصول خلافتهم.. وبعدما عينوا أحد أولاده ملكاً علي الشام حتي هاجمه الفرنسيون.. فذهبوا به إلي العراق ونصبوه ملكاً.. ولم يمارسوا معه لعبة الخلافة هذه المرة، بل لعبة يزيد بن معاوية »البيعة فقط« فزعموا أن أهل الحل والعقد من أمة العراق انتخبوا فيصلاً ليكون ملكاً عليهم بالإجماع!.. ولا شك أن الذي أخذ به خطيب معاوية البيعة ليزيد هو عينه هذا الذي أخذ به الانجليز إجماع العراقيين »لإمامة فيصل«!! كما يذكر الشيخ في فصل سابق لتكتمل مأساة المسلمين قديماً وحديثاً ما بين الخلافة والإمامة.. وفي أطوار تاريخية مختلفة ولكنها لا تخرج عما انتهي إليه حين يقول »هل كان في شيء من مصلحة المسلمين لدينهم أو دنياهم تلك التماثيل الشلاء« التي كانوا يقيمونها.. في الهزيع الأخير من ليل العرب الطويل ».. بل تلك الأصنام التي يحركونها، والحيوانات يسخرونها؟؟ ثم ما بال تلك البلاد الإسلامية الواسعة غير مصر التي نزعت عنها ربقة الخلافة وأنكرت سلطانها، وعاشت ومازال يعيش كثير منها بعيداً عن ظل الخلفاء وعن الخضوع الوثني لجلالهم الديني المزعوم، أرأيت شعائر الدين فيها دون غيرها أهملت، وشئون الرعية عُطلت أم هل أظلمت دنياهم لما سقط عنها كوكب الخلافة؟ وهل جفتهم رحمة الأرض والسماء لما بان عنهم الخلفاء؟ لا.. »بادوا فما بكت الدنيا لمصرعهم.. ولا تعطلت الأعياد والجُمعُ«. ويتم الشيخ هذا الفصل عن الخلافة والإمامة بقوله: أراد بها أن يدفع عنه شبهة أي تشكيك في صدق إسلامه.. ويؤكد رأيه في نفس الوقت ».. معاذ الله.. لا يريد الله جل شأنه لهذا الدين الذي كفل له البقاء أن يجعل عِزّهُ وذله منوطين بنوع من الحكومة ولا بصنف من الأمراء. الله جل شأنه أحفظ لدينه وأرحم بعباده«. ما جدوي هذا الحديث؟.. هذا حديث لا يحيط بكل تفاصيل هذا الكتاب أو هذا الطرح المهم.. ولكنه يضع أمامنا اجتهاداً دينياً وسياسياً وتحليلاً تاريخياً، هي جميعاً تستحق الحوار بالمعني الذي دعونا إليه في صدر هذا المقال.. وهذا هو جوهر الأمر.. فتح ملف التنوير أمام واقع يحتاج إليه بشدة.. وإذا كان هذا الواقع محملاً بمشاكل إعادة البناء السياسي وهيكلة جديدة للاقتصاد المصري.. ورسم خريطة اجتماعية جديدة.. الخ. فإن تحقيق ذلك يحتاج إلي سند مهم في طريقه نحو هذه الأهداف.. وهذا السند هو إحياء العقل المصري واحتضان قضية التنوير وخلق قدرة حقيقية علي الحوار.. حوار الجماعة المصرية فيما بينها من أجل قضاياها.. وهي مهمة شاقة.. بل خطيرة.. يقف غيابها حالياً خلف مخاطر تحيط بنا صباح مساء.. وهذا ما يقودنا إلي هدف آخر أسعي خلفه وهو استحضار نماذج فاعلة في حركة التنوير التي سلفت نماذج لديها شجاعة الاجتهاد.. ويمكن أن تلقي بظلالها علي ساحة الحوار ومحاولة إحياء حركة تنوير جديدة.. وإلي حديث عن طرح آخر. هوامش: اللاعب الأساسي في ملف الإرهاب الدولي.. هو أمريكا وليس بن لادن.. واستحضروا الحكاية من أولها.. »وبالمرة« لا تنسوا قبلها دور الحركة الصهيونية المنبع الأول منذ وطأت أقدامها أرض فلسطين! »والله تفرق كتير جداً« لو أعدنا ترتيب الأولويات، وأحكمنا الأمور، ووفرنا الوقت الكافي والحوار. قبل أن نبدأ بمعترك انتخابات ستجري في جو غائم مازال مُلغماً.. لو حصل.. أظننا سنتفق بالحوار الصحيح علي أولوية الدستور الدائم. لن يستقيم فتح ملف الحوار الوطني المرتقب وكما نرجوه بمعزل عن فتح عاجل لملفي الحوار حول دور الثقافة والإعلام.. هذا مطلب وارتباط شرطي! المصالحة الفلسطيينة خطوة كبيرة لا يجب السماح بإجهاضها، فهي انتصار وامتداد لحركة التغيير في المنطقة.. وصفعة مدوية لأعداء هذا التغيير. لا عزاء لقراء العربي بعد انسحاب عبدالله السناوي من المشهد المُربك!