يخطيء من يتصور أن أزمتنا مع مياه النيل هي في شروع أثيوبيا في تنفيذ سد الألفية أو النهضة منذ عامين وبدء تحويلها مؤخرا لمجري النيل الأزرق الذي يأتينا منه عبر رحلة طويلة تمتد إلي ستة آلاف كيلومتر أكثر من 85٪ من مياه النهر، فالأزمة تمتد لعقود طويلة من الزمن وأطرافها ليست فقط دول حوض النيل لكن هناك أياد خارجية سعت ولاتزال لإشعال حرب مياه بين دول المنابع خاصة أثيوبيا ودولتي المصب (مصر والسودان)، كما أن هذا السد ليس الأول فهناك أربعة سدود شيدت من قبل كان من أهمها سد نهر تيكيزي أحد الروافد الكبري للنيل الأزرق. المشكلة الكبري في ملف أزمة مياه النيل أن صفحاته تراكمت واختلط ماهو تاريخي بالجغرافي والاقتصادي والسياسي، ولم تكن هناك في النظام السابق إرادة سياسية أو حتي الرغبة في التعامل مع المواقف المستجدة في هذا الملف، فغرق من كثرة وثقل ماحوي من تفاصيل وتعقيدات، ودور النظام الجديد في مصر أن ينتشل هذا الملف الغارق وتبيُّن مابه من أزمات ومشاكل للتعامل حاضرا ومستقبلا، وهي مهمة ليست هينة في ظل تنامي الاحتياجات للمياه في بلد يعد النيل شريان حياة وبدونه تتحول مصر لا قدر الله لصحراء جرداء لا أثر للحياة فيها! وحينما ربط مبارك ملف علاقاته بأثيوبيا والسودان وحياة المصريين بمحاولة اغتياله في مثل هذا الشهر من 18 عاما، فكانت القطيعة مع البلدين مما أتاح لأديس أبابا أن تمضي في مخططها لإنشاء السدود دون أن تطلع مصر أو السودان حيث يصب النهر في نهاية رحلته علي شيء من تفاصيل ماتفعله لأنها قررت أن التاريخ ومابه من اتفاقيات ومعاهدات لايلزمها بشيء، انشغل النظام في مصر بملف توريث الابن، وانشغل السودان بالصراعات الداخلية في الجنوب والشرق مما أتاح لأثيوبيا أن تستغل ذلك الانشغال في المضي قدماً في تنفيذ مخططاتها في أن تكون قوة إقليمية يحسب لها حساب وتكون لها الكلمة في مياه النيل منحا وحجبا!! أكثر من 120 عاما هي تاريخ النيل الحديث مع البروتوكولات والاتفاقيات والمعاهدات التي تنظم سريان النيل وصولا للمصب ابتداءً من بروتوكول عام 1891 بين بريطانيا وإيطاليا ومرورا بمعاهدتي 1902 و1906 ثم اتفاقيتي عامي 29 و1959 اللتين نصتا في مجملهما علي حفظ حقوق مصر والسودان المائية وعدم إقامة أي مشروعات علي النهر تضر بتدفق المياه لهما، والغالب في هذه الاتفاقيات أنها جرت بين قوي استعمارية (بريطانيا وإيطاليا وبلجيكا) ودول الحوض خاصة في منطقة المنابع وهو سبب تستند إليه أديس أبابا في عدم الالتزام أو الاعتراف بها، ومن ثم بدأت منذ ثمانينات القرن الماضي في تنفيذ مشروعاتها علي أحد روافد النيل الأزرق ( سد فيشا)، وكان تعامل النظام في مصر أيام السادات ومبارك إما بالتلويح بالحل العسكري أو التقليل من حدوث ضرر بحصة مصر من مياه النيل ثم تجاهل هذا الملف وعدم إعطائه أي اعتبار أو حتي التفات وعدم تجاوز محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا ومقاطعته حضور أي قمة إفريقية هناك!! لم نتفهم دوافع حرص أثيوبيا علي بناء السدود أو ندخل في حوار علي أساس المصالح المتبادلة بين جميع الأطراف في دول حوض النيل بما لايضر بأحد منها، فالسدود ليست غاية في حد ذاتها إنما وسيلة لتحقيق أهداف منها توفير الكهرباء لبلد لاتتوافر لمعظم سكانه مصادر الطاقة وزراعة مساحات من الأرض، لذا يمكن للمفاوض المصري أن يعتمد علي كافة الدراسات والأبحاث الخاصة بالطبيعة الجيولوجية لمنطقة الهضبة الأثيوبية وخطورة إقامة سدود فيها والاستناد إلي حالة انهيار لسد أقامته شركة إيطالية بعد 10 أيام فقط من إنشائه، أيضا يمكن للمفاوض المصري أن يدفع بتلك الدراسات للمؤسسات الدولية للتمويل التي سبق أن أبدت تحفظاتها علي مشاريع السدود ومن ثم رفضت تمويلها لإضرارها بالبيئة من ناحية وخرقها للاتفاقيات الموقعة في السابق فيما يتعلق بالحقوق المائية، يستطيع المفاوض المصري بالتعاون مع نظيره السوداني اتخاذ قرار الانسحاب من الاتفاقية الإطارية لمبادرة حوض النيل وبالتالي تفقد وجودها وأهميتها إلا إذا تضمنت نصا صريحا حول الاعتراف بالحقوق التاريخية بمياه النيل لدولتي المصب، كما تستطيع مصر الضغط علي الدول التي تقيم مشروعات السدود ومنها الصين لسحب تمويلها استناداً إلي الأضرار التي ستلحق بحصتنا من النيل خاصة أنها بدأت في إطلاق مشروعات استثمارية كبري في مصر، المهم أن يتواصل الحوار علي قاعدة المصالح المشتركة لدول الحوض وليس بلغة الاستعلاء كما كان في العهد السابق أو التلويح بالخيار العسكري من البداية، وأيضا طرح مسألة الفاقد الضخم من مياه النيل بسبب البخر والتسرب في البرك والمستنقعات، إضافة لصعوبة بناء السدود في منطقة الهضبة الأثيوبية لوعورة جبالها وصخورها وتأثير بنائها علي طبيعة المنطقة واحتمال تعرضها لزلازل مستقبلا وانهيارها والآثار الكارثية علي الأرض والسكان، كما يمكن التفاوض علي ارتفاعات السدود وسعتها التخزينية وفترات الامتلاء لتلافي التأثير علي الحصص المائية لدولتي المصب، اللجوء للقانون الدولي أحد الحلول المطروحة في حال إصرار أثيوبيا علي المضي في مخططاتها فيما يتعلق بحقوق الدول المشاطئة للأنهار، المفاوض المصري لديه العديد من وسائل الضغط لكن من المهم فتح القنوات مع دول حوض النيل خاصة إثيوبيا علي قاعدة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة فيما بينها حتي تنتهي هذه الأزمة التي تؤرق كل مصري، ومن المهم أيضا أن نعيد النظر في تعاملنا مع النيل الذي قدسه المصريون القدماء وندنسه نحن بالكثير من الانتهاكات !!