تبدأ هذه القصة في نوفمبر 1956- بعد رحيل البابا يوساب الثاني البطريرك 115 - اختار الله من الآباء المطارنة الأنبا أثناسيوس مطران بني سويف ليكون قائمقام البطريرك. ونظراً لحزمه وقوة شخصيته وشجاعته فقد انتهت الانتخابات البابوية في إبريل 1959 باختيار الراهب مينا البراموسي المتوحد طبقاً للقوانين الكنسية التي استقرت بالكنيسة منذ القرن الرابع الميلادي وتمت سيامته بطريركاً باسم البابا كيرلس السادس في 10 مايو 1959. كان الراهب مينا البراموسي المتوحد مهتماً بإعادة إحياء منطقة القديس مينا بمريوط (يطلق عليها عرب الصحراء اسم "بومنا") التي كانت مدينة رخامية مزدهرة بالرهبان والعمارة القبطية في القرن الرابع الميلادي وظلت موضع اهتمام العالم المسيحي كله حتي القرن الحادي عشر الميلادي حينما اندثرت نتيجة هجوم البربر وقُطاع الطرق، وظلت في طي النسيان حتي عام 1905 حينما تمكن عالمان أثريان ألمانيان وهما كارل ماريا كاوفمان وصديقه فولز من أكتشافها. فور أن جلس البابا كيرلس السادس علي الكرسي البابوي، بدأ بهمة ونشاط في إزاحة ستار النسيان عن تلك البقعة المقدسة. فبعد مضي ستة أسابيع بدأ بزيارة المنطقة في 22 يونيو 1959 حيث أقام قداساً في قلب صحراء مريوط بالكنيسة الأثرية التي أقامها البابا أثناسيوس البطريرك العشرين في القرن الرابع الميلادي تحت سرادق كبير اهتمت جمعية مارمينا العجايبي للدراسات القبطية بالإسكندرية بإعداده خصيصاً لهذا اليوم. وتشاء الظروف أن يكون كاتب هذا المقال أحد الذين شاهدوا هذا الحدث التاريخي وكنت أبلغ من العمر 9 سنوات بصحبة والدي أحد خبراء الآثار المصرية. ثم في يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959 توجه البابا كيرلس السادس وعلي مسافة 3 كيلومترات وضع حجر أساس الدير الحديث، وذلك في قطعة أرض كان البابا كيرلس قد اشتراها من هيئة تعمير الصحاري وتبلغ مساحتها 50 فداناً ثم أضاف إليها بعد ذلك مساحة 100 فدان أخري. ومنذ ذلك الوقت شهدت المنطقة نهضة رهبانية وزراعية وعمرانية جديدة اهتم بها البابا كيرلس السادس بنفسه. وبذلك استطاع البابا البطريرك أن يضع أمام الشعب قطعة من التاريخ هي مصدر فخار قومي وروحي، فهرع المصريون إلي المنطقة تبركاً وأتي اليها الأجانب من بعيد ليشاهدوا ما تفعل قوة الإرادة وحب البناء. كنا نقف وننظر إلي الأطلال الباقية منذ القرن الرابع الميلادي ونحن لا نكاد نصدق أن الحياة ستدب في يوم من الأيام في هذه المنطقة، لكنها كانت عزيمة بطريرك عظيم مسنودة بعجائب قديس عجايبي. وتقديراً من هيئة تعمير الصحاري للبابا البطريرك فقد أعدت 12 لوحة استرشادية تحمل اسم دير القديس مينا توضع علي طول الطريق من محطة قطار بهيج حتي الدير. لكي تبدأ الحياة الرهبانية بالدير اختار البابا كيرلس السادس ثلاثة من رهبان دير السريان كان وقتها الدير الوحيد العامر بالرهبان ليكونوا نواة الرهبنة بالدير الحديث. أول شاب حضر للرهبنة بالدير كان من صعيد مصر وكان يبلغ من العمر 19 عاماً وفي عام 1961 أقامه البابا كيرلس السادس راهباً باسم الراهب عازر آفا مينا، ثم في سبتمبر 1964 أقام البابا كيرلس ثلاثة رهبان آخرين. وتوالي بعد ذلك سيامة آباء رهبان للدير. ارتفعت مباني دير القديس مينا علي مساحة قدرها 15 فداناً من ال 50 فداناً في خلال سنتين (1959 1961). بدأ الرهبان السبعة بزراعة الصحراء، ونظراً لندرة المياه فقد اكتفوا بزراعة الشعير والزيتون اعتماداً علي مياه الأمطار، فكانوا في موسم الحصاد يقومون بجني المحصول ويحضر مجموعة من الأشخاص لشرائه من الدير. ولتوفير احتياجهم من المياه، كان يوجد لديهم عربة صغيرة يقوم بسحبها حيوان صغير وبها صهريج صغير يتم ملؤه بالمياه من قرية بهيج التي تبعد عن الدير 12 كيلومترا. ونظراً لبعد المسافة فقد أحضر بعض المهتمين باحتياجات الدير جراراً ليقود صهريجاً كبيراً اسطواني الشكل للمياه، كان يقوده الراهب عازر مرتين في الأسبوع لإحضار المياه من قرية بهيج. أخذت الحياة الرهبانية تنمو باطراد بالدير، تحت رعاية وإشراف البابا كيرلس السادس الذي كان يقضي أياماً وأسابيع بالدير في صلاة وخلوة روحية وفي نفس الوقت يشرف علي تعمير الدير رهبانياً وعمرانياً، فكنا نراه يتوجه لزيارة الرهبان وهم يحصدون الشعير والزيتون. كما اهتم بتوطيد العلاقة بين رهبان الدير ومجموعة البدو المقيمين بالخيام المحيطة بالدير. فكان البدو يحضرون إلي الدير للعلاج أو للحصول علي احتياجاتهم من الأدوية في الأمراض الطارئة. تحول الدير إلي نموذج طيب للتعايش الإيجابي بين أبناء الشعب الواحد. حتي أن البدو كانوا يستبشرون خيراً عند وجود البابا البطريرك في وسطهم بالدير. كان حزنهم عظيماً جداً عندما علموا بخبر انتقاله في يوم الثلاثاء 9 مارس 1971. وعندما علموا أنه سيتم نقل جثمانه في 22 نوفمبر 1972 أصروا أن يحملوا الجثمان علي أكتافهم في قلب الصحراء واستمروا في حمله حتي دخلوا به كنيسة الدير. إن قصة دير القديس مينا العجايبي هي قصة حب بين البطريرك الوقور البابا كيرلس السادس وبين أبنائه المحبين الذين ارتبطوا ارتباطاً وثيقاً بكنيستهم ووطنهم. قصة حب بين رهبان الدير وبدو الصحراء الذين وجدوا في الدير ملاذهم للحصول علي احتياجاتهم في حب ومودة. قصة حب بين البابا الوقور وجمعية مارمينا العجايبي بالإسكندرية الذي كلف أحد أعضائها وهو الأستاذ بديع عبدالملك بكتابة اللوحة التذكارية التي وُضعت علي حجر الأساس ومازالت اللوحة التذكارية موجودة بالدير تشهد علي روعة الكتابة والإتقان في الإخراج القائم علي الحب. كان هذا الزمن هو زمن البساطة والصراحة والحب بعيداً عن الفلسفات التي تفسد العلاقات الإنسانية. تحية لروح البطريرك العظيم البابا كيرلس السادس، ولأرواح آباء رهبان الدير الذين رحلوا بعد أن أكملوا جهادهم المبارك، ولأرواح أعضاء جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية من المؤسسين.