في ذكري رحيل الثائر والمفكر والفيلسوف جمال الدين الأفغاني، الذي مات في منفاه في تركيا في صبيحة يوم 9مارس سنة 7981 ودفن في قبر مجهول، حتي نقلت رفاته سنة 1944إلي بلاد الأفغان.. في هذه الذكري ترجع بنا الذاكرة إلي أيام نضال هذا الثائر العظيم الذي أيقظ العالم العربي والإسلامي من سباته، ووجه الناس إلي ضرورة التخلص من الاستعمار، والعودة إلي الوعي الحقيقي بدينهم وتاريخهم، وأن يكون لهم الدور المؤثر في العالم، وكانت دعوته تهز كيان الاستعمار العالمي، وتؤرق الخلافة العثمانية حتي أن السلطان عبدالحميد دعاه إلي تركيا، ثم جعله أسيرا في تركيا لا يستطيع أن يغادرها إلي أن رحل إلي جوار ربه، تاركا تاريخا عريضا يغالب الزمن ويقهر الفناء.. لقد استمع إليه المصريون، فإذا بهم يسمعون من يوقظهم من سبات عميق، وكان من أشهر تلاميذه الشيخ محمد عبده الذي لازمه واستفاد منه، واشترك معه فيما بعد في تأسيس مجلة »العروة الوثقي« في باريس، التي أنارت وأشعلت الشعور بالوطنية في العالم العربي، وبثت فيهم روح الحرية والنضال. لقد استمع إليه المصريون وهو يخطب في الإسكندرية حاثا لهم علي النضال ومعرفة حقوقهم قائلا: »أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتنبت ما تسد به الرمق، وتقيم أود العيال، فلم لا تشق قلب ظالمك؟.. لماذا لا تشق قلب الذين يأكلون ثمرة أتعابك«.. ويقول عنه الدكتور عثمان أمين في كتابه (رواد الوعي الإنساني) »وقد كان طبيعيا أن يثير موقف جمال الدين معارضة له وسخطا عليه من كل صوب: من رجال الدين المحافظين، ومن الحكام المستبدين، ومن الأجانب الطامعين.. وكانت أحوال مصر الاقتصادية والسياسية قد ساءت، مما أدي إلي التدخل الأوربي في شئونها بحجة (المراقبة الثنائية) من انجلترا وفرنسا، ثم إلي عزل الخديو إسماعيل، بعد أن أشرفت البلاد علي الإفلاس، نتيجة بذخه وإسرافه وطغيانه« وكان توفيق قبل ارتقائه العرش قد عاهد جمال الدين وأصحابه الأحرار علي تأييدهم في مطالبهم الإصلاحية، ولكن سرعان ما تنكر الخديو لهم حين آل الحكم إليه، وأصدر أمره بإبعاد جمال الدين من مصر، إرضاء لناصيحه من الإنجليز والفرنسيين الذين كانوا يخشون إقامة حكم نيابي في البلاد. ويصف الدكتور عثمان أمين الأفغاني بأنه من أعلام النهضة الفكرية الحديثة، وزعيم روحي شرقي، ومصلح اجتماعي عصري، وداهية سياسي ثوري، اجتمعت له مواهب عقلية نادرة، وصفات أخلاقية عالية جعلت لشخصيته مغناطيسية تجذب النفوس، فهو باعتراف جميع من عرفوه كاتب مبدع، وخطيب بليغ، ومجادل مقنع، ومتحدث بارع.